Beirut weather 15.21 ° C
تاريخ النشر December 25, 2024
A A A
البطريرك الراعي في عظة قداس الميلاد: ميلاد المسيح حدث تاريخيّ ذو مضمون لاهوتيّ

قال البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في عظة قداس عيد الميلاد المجيد في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي تحت عنوان: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر”(لو 2: 14): بميلاد ابن الله إنسانًا، تجلّى مجد الله، وأعاد إلى الإنسان بهاء إنسانيّته، ومنح العالم هبة السلام، وأعطى بالرجاء معنى للحياة البشريّة والوجود التاريخيّ.
هذا ما أنشده جوق الملائكة ليلة الميلاد “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر”(لو 2: 14).
ميلاد المسيح حدث تاريخيّ ذو مضمون لاهوتيّ. فتاريخيًّا، حدثُ الميلاد تمّ أثناء الإحصاء الكونيّ في عهد الإمبراطور أغسطس قيصر على عرش روما، وفي ولاية قيرينيوس على منطقة سوريا ومن ضمنها أرض فلسطين. ولاهوتيًّا بميلاده في بيت لحم أثناء الإحصاء الكونيّ، أحصي المسيح ابن الله المتجسّد في سجلّ البشر، لكي يسجّل كلّ إنسان من أيّ لون أو عرق في سجلّ ملكوت الله للخلاص الأبديّ، شرط أن يعيش إيمانه وفق متطلّباته، ولا سيما بالممارسة وحفظ وصايا الله ورسومه.
يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، التي نحيي بها عيد ميلاد ابن الله إنسانًا، يسوع المسيح، فيطيب لي أن أقدّم لكم التهاني بالعيد مع أطيب التمنيات، هاتفين معًا، وُلد المسيح! هللويا!
بميلاده تجلّت محبّة الله اللامتناهية للجنس البشريّ، إذ أرسل ابنه مخلّصًا للعالم وفاديًا للإنسان. فإليه نصلّي لكي يقود خطواتنا إليه ملتمسين منه نعمة الخلاص والفداء.
في ذروة الليل وُلد، ليكون انبلاج فجر جديد يبدّد ظلمات الحياة بشخصه وكلامه وآياته. لو لم يولد المسيح في الجسد، لما كان “عمّانوئيل” إلهنا معنا، لو لم يولد في الجسد، لما صُلب ومات وقام، ولما فُتحت لنا السماء بصعوده، لو لم يرسل الروح القدس، لما تحقّقت فينا ثمار الفداء، ولما أطلقت الكنيسة.
يسوع الإله في ظهور دائم في حياة كلّ مؤمن ومؤمنة، عندما تشتدّ ظلمات الحياة، فلننتظر بالرجاء ظهوره، أي تجلّي نعمته الفاعلة فينا، وتجلّي كلمته التي تنير وتعضد وتوجّه، ولا سيما أثناء ظلمات الحياة، فنقول مع يوحنّا الرسول والكنيسة: “تعال أيّها الربّ يسوع” (رؤيا 22: 20).
ملاك الربّ يعلن الخبر المفرح للرعاة الساهرين على مواشيهم. إنّه إعلان ميلاد المخلّص لرعاة الكنيسة لكي يحملوا هم دائمًا هذا الخبر لجميع الناس بغيرة رسوليّة لا تتعب ولا تتوقّف، ولكي يكونوا على مثال “الراعي الصالح”. فلو لم يأتِ ذلك الراعي، لَعجِزَ رعاة الكنائس عن أن يحرسوا القطيع حراسة جيّدة. فرعايتهم ستكون ضعيفة، لو لم يكن المسيح راعيًا وحارسًا معهم. يكتب القدّيس بولس إلى أهل كورنتس: “نحن نعمل مع الله” (1كور 3: 9).
إنّ أحداث لبنان الأخيرة والمتغيّرات التي جرت في سوريا زادت القناعة الداخليّة والدوليّة بحياد لبنان. فالحياد اللبنانيّ لا يقيم جدارًا بين لبنان ومحيطه والعالم. فإنّه لا يعني الاستقالة من “الجامعة العربيّة” ومن “منظّمة المؤتمر الإسلاميّ”، ومن “منظّمة الأمم المتّحدة”، بل يعدّل دور لبنان ويفعّله في كلّ هذه المؤسّسات وفي سواها، ويجعله شريكًا في إيجاد الحلول عوض أن يبقى ضحيّة الخلافات والصراعات. وبديهيّ هنا أنّ اعتماد الحياد لن يحول دون مواصلة التصدّي للتوطين الفلسطينيّ على أرض لبنان.
لا حياد بدون سيادة واستقلال وأمن وحريّة. دستور الدولة المحايدة يردع الغرائز الداخليّة والأطماع الخارجيّة، فيسمح للدولة أن تشارك في حلّ مشاكل الآخرين، من دون أن يتدخّل الآخرون في شؤونها، ويخلقون لها مشاكل عصيّة الحلّ.
ما أحوج لبنان إلى مثل هذه الضوابط لكي يستعيد استقلاله ووحدته وقوّته. إنّ جوهر نشوء دولة لبنان في الشرق هو مشروع دولة حياديّة بفعل مميزاته الخاصّة. إنّ صيغة “لا شرق ولا غرب” جسّدت رمزًا حياديًّا بين الوحدة العربيّة والاستعمار الغربيّ. وكرّست “صيغةُ مع العرب إذا اتفقوا، ومع الحياد إذا اختلفوا” التي أرادها لبنان مبدأ سياسته داخل الجامعة العربيّة. وعنى الشعار اللبنانيّ “لا غالب ولا مغلوب” في عمقه تحييد التسويات بعد كلّ أزمة. ولكنّه لم يُطبّق بعد لا داخليًّا ولا خارجيًّا. وثبّت احترام لبنان اتفاقيّة الهُدنة مع إسرائيل التزام الحياد العسكريّ فقط في الصراع العربيّ-الإسرائيليّ. وبفضل هذا الموقف، نجح لبنان عمومًا في الحفاظ على سلامة أراضيه رغم كلّ الحروب العربيّة-الإسرائيليّة (راجع سجعان قزّي: “حياد لبنان الدائم” في كتاب لبنان الكبير المئويّة الأولى ص 418-426).
إنّنا نتطلّع إلى اليوم التاسع من شهر كانون الثاني المقبل، حيث يقوم المجلس النيابيّ بانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة بعد مرور سنتين وشهرين من الفراغ المخزي، إذ كيف تركوا البلاد من دون رأس فتعثّرت المؤسّسات الدستوريّة: المجلس النيابيّ فقد صلاحيّة التشريع لكونه أصبح هيئة ناخبة، ومجلس الوزراء فقد الكثير من صلاحيّاته وانقسم على ذاته، وجميع التعيينات إمّا كانت بالإنابة أو لم تحصل.
فنأمل أن يصار هذه المرّة إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة: مؤهّلٍ لصنع الوحدة الداخليّة، ولتحقيق اللامركزيّة والإصلاح الإداريّ والماليّ والاقتصادي -الاجتماعي، ولضبط إيقاع قيادة الدولة وعملها وتفعيل مؤسّساتها، والتواصل مع الدول الفاعلة.
فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، ملتمسين من الفادي الإلهيّ، في تذكار ميلاده مخلّصًا للعالم وفاديًا للإنسان، أن ينعم علينا بالسلام، ويحيي فينا فضيلة الرجاء، وينير المجلس النيابيّ ليختار رئيسًا “وفق قلبه” (إر 3: 15). له المجد والتسبيح الآن وإلى الأبد، أمين.
وُلد المسيح! هللويا!