Beirut weather 16.41 ° C
تاريخ النشر January 27, 2018
A A A
الأمراض النفسية في سوريا: شعب كامل في مواجهة الصدمات
الكاتب: مرح ماشي - الأخبار

تضاعفت أعداد الحالات النفسية في البلاد، بسبب الحرب ومعاناتها، وسط نقص حاد في أعداد الأطباء النفسيين. عشرات الأطباء المختصين لا يستطيعون تلبية حاجات شعب غارق في الأزمات، فيما تحاول الحكومة مع منظمة الصحة العالمية «رأب الفجوة».

مع ازدياد الحديث عن الشعارات اللازمة لضرورات المرحلة الحالية من عمر البلاد، التي يتضمن بعضها إعمار النفوس قبل الحجر، تتبدّى الفجوة الهائلة في تطبيق مواجهة حقيقية لهذا التحدي.

فملف إعادة الإعمار الذي يشغل بال رجال الأعمال والحكومة والشركات الأجنبية المستثمرة على السواء، ينال حصة الأسد من الاهتمام العالمي، فيما يتطلب إعمار النفوس دعماً اجتماعياً ونفسياً واقتصادياً وثقافياً، وسط اعتبار عجز ميزانية الدولة السورية عذراً فعلياً للتقصير في الكثير من الواجبات، التي ليس من بينها، حتماً، الدعم النفسي غير المذكور على لائحة الضرورات أساساً. وذلك بالتوازي مع ما يمكن مواجهته من إعلانات طرقية تغرق قلب العاصمة السورية بشعارات تتحدث عن «رضا المواطن». وهُنا يظهر المسؤولون والتجار بمظهر المهتمين بالمواطن، وبمشاعره وجراحه وحالته النفسية المتعَبة. في رحلة سير سمر، الفتاة الثلاثينية، إلى عملها يومياً تقابل اللوحات المذكورة بسخرية بالغة. عانت الفتاة اكتئاباً حاداً بعد فراقها عن حبيبها المعارض الذي سافر خارج البلاد، ما اضطرها إلى طلب المساعدة من الطب النفسي. «تطلب حجز الموعد في العيادة النفسية انتظار 3 أشهر»، تقول سمر. وتتابع الموظفة الحكومية قولها: «تساءلتُ حينها: هل كل الشعب يذهب إلى هذه العيادة؟». لا يخفى على الفتاة نقص العدد الحاد للأطباء النفسيين، مع تزايد الحاجة إلى وجودهم بفعل الحرب القاسية. وتلفت إلى تجاوبها مع العلاج بفضل الأدوية، وليس بالمتابعة الطبية اللازمة. «جلسة كل 6 أشهر، إضافة إلى الدواء اليومي، ما يجعلني أقوم بواجباتي اليومية بنحو مقبول. كنت قبل ذلك لا أقوى على شيء. وتمنيتُ الموت مراراً»، تضيف. بنظرها: «ما عاد الحُب حُباً، ولا الوطن وطناً»، ما يعطي شعوراً بالندم على الفراق الذي عصف بحياتها، فأحالها باردة المشاعر حيال كل شيء. المشكلة ذاتها، لكن من زاوية أخرى، ترويها عفراء، إذ إنها تفاجأت بزواج زوجها من بامرأة أُخرى، ما عرّضها لانهيار عصبي، أفضى إلى صدمة متواصلة قرّبتها من الانتحار. تقول بضعف واضح: «ما عاد لدينا الكثير من الشبان. معظمهم ماتوا أو سافروا. لذلك لا بد من لجوء الباقين إلى الخيانة والتعدد، بفعل الظرف المتاح لدى نساء أخريات يعانين بدورهن من آثار الحرب وحاجتهن إلى الارتباط بأيٍّ كان». الاختصاصي النفسي ساعدها في الحصول على إجابات منطقية لأسئلتها الكثيرة، غير أن الدواء وحده لا يقدم لها الراحة. والاختصاصي ذاته يشرح صعوبات الحياة بالنسبة إليه وإلى زملائه القلائل، إذ إن المعاينة تبلغ 2500 ليرة سورية. وقد تدفع المعاينة لمرة واحدة فقط، في ظل احتمال عدم عودة المريض طوال أشهر قادمة، حيث يمكن استخدام الوصفة الطبية مرات عدة، كأمر متعارف عليه خلال مراحل العلاج النفسي، الذي يتجاوز في أخف الحالات 6 أشهر من تاريخ البدء بتناول الدواء. وقد ينصح الأطباء النفسيون بالمهدئات والمثبطات والأدوية المنومة، وهي متوافرة في الصيدليات السورية، بصناعة وطنية أو إيرانية.

صدمات حوادث الحرب

ساعات طويلة من الحصار الليلي وملاحقته من قبل عناصر «داعش» في صحراء تدمر، هي حكاية معاناة الضابط ربيع. الشاب المقاتل في الجيش السوري الذي عانى إصابة في القدم، محتمياً بصخرة صغيرة حجبت المسلحين عن رؤيته، ومنحته النجاة. في المستشفى أوقفوا نزف جرح قدم الشاب الثلاثيني، غير أن نزف روحه حرمه النوم، وقاده إلى الطب النفسي. عبر الهاتف روى لطبيبه المعالج معاناة تجربته، ونال الرعاية عن بعد. «صدمة ما بعد الحادث»، هكذا شخّص الطبيب حالة ربيع، الذي بدا متصالحاً مع حاجته إلى المساعدة، خشية استعادة التجربة عبر الكوابيس واستمرار ضياعه في دوامة القلق. 7 أشهر دامت فترة العلاج، ليخرج معافىً تماماً من حالة «صدمة ما بعد الحادث»، وليقول ساخراً: «بقي الكثير من العقد النفسية التي تحتاج حلولاً. شفيت من واحدة منها فقط مثل الكثير من الناس هُنا». ويلفت الشاب لجوء الطبيب المختص إلى الهاتف خلال جلسات العلاج، بسبب عدم قدرته على التنقل، بفعل الإصابة، إضافة إلى كونها جلسات ليلية في ظل ضيق وقت الطبيب نهاراً.

* يشكو الأطباء بدورهم انخفاض أجر المعاينة، نظراً لاستخدام الوصفات المتعددة.

يغرق بعض الناجين من مجزرة ضاحية عدرا العمالية، في ريف دمشق، قبل سنوات، في عزلتهم الإرادية. لاقى بعضهم صدمات فوق طاقة احتماله. منهم منير الذي اضطر، وفق ما يتناقله جيرانه، إلى إطلاق الرصاص على أطفاله وزوجته، بعد حصار المسلحين للمبنى الذي كانوا يعيشون فيه. خشي الرجل على عائلته ذلّ الأسر، غير أن من سخرية القدر، بالنسبة إليه، نجاته وحده من الموت، إذ فشل في قتل نفسه. يعيش منير اليوم في منزل فقير ضمن قريته البعيدة، لا يواسيه إلا شرب الكحول. محاولة أقربائه إخراجه من حالته وتشجيعه على زيارة الطبيب النفسي، جعلته يزور أحدهم، ويعود بخلاصة: «إلى من يلجأ الطبيب النفسي عند تأزم حالته النفسية؟ إنه مجنون وبحاجة إلى المساعدة أكثر منا جميعاً. بينما يظن نفسه يمتلك الحلول، ليس لديه إلا التنظير». تسوء حال منير يوماً بعد آخر، إذ لا ينتظر شيئاً من الحياة سوى موت ضلّ الطريق إليه، فيما أخذ كل أفراد عائلته. ومع رفضه العلاج النفسي، يرى المقربون منه أن تجربته في اختيار الطبيب النفسي المناسب لم تكن جيدة، ما أفقده الثقة كلياً في الأمر. ومثله كثيرون من السوريين الذين فقدوا أحباء أو تعرضوا للعنف، وسط إهمال كامل من الدولة السورية وأقاربهم للدعم النفسي. فيما تكمن الكارثة الحقيقية لدى آلاف الأطفال الذين واجهوا العنف والموت والإصابة وفقد الوالدين، وهم متروكون اليوم لمصيرهم من غير الحصول على أي رعاية نفسية، قد تمنعهم من أن يكونوا مشاريع «إرهابيين» مستقبليين.

من «يرأب الفجوة»؟
لا يبدو برنامج «رأب الفجوة» كافياً، وهو الذي أدخل منظمة الصحة العالمية على خط الدعم النفسي في البلاد بالتعاون مع الحكومة السورية، على الرغم من الاهتمام بتدريب ما يقارب 2500 طبيب من مختلف الاختصاصات، لتقديم حلول سريعة في التعامل مع 10 أنواع من المشاكل النفسية التي تواجه الشعب السوري، جراء النقص الحاد في عدد الأطباء المختصين. فإن كان من الضروري توافر طبيب مع فريق مجهز لكل 10 آلاف شخص، حسب معايير منظمة الصحة العالمية، تحتاج سوريا إلى 2000 طبيب، في حد أدنى، لتغطية احتياجات شعبها النفسية، التي تضاعفت مع الحرب. واللافت أن ما يتوافر من العدد المطلوب هو عشرات الأطباء فقط، الذين يتركز جلّهم في العاصمة السورية، ولا يغطون أكثر من 10% من حاجات المرضى. ومع لجوء الأطباء المختصين إلى الخارج، ووجود أكثر من 200 طبيب نفسي سوري في فرنسا وحدها، فإن الباقي لكل مليون مواطن سوري 3 أطباء نفسيين، ما يشرح عمق المشكلة وأخطارها على المدى البعيد.
*

من أحد مستشفيات الأمراض العقلية في مدينة أعزاز في ريف حلب (أ ف ب)