Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر December 2, 2019
A A A
الأزمة الإقتصاديّة والماليّة الحاليّة أظهرت مدى تقصير السياسات الحكوميّة
الكاتب: بروفسور جاسم عجاقة - الديار

إذا كان للأزمة الحالية التي يتخبّط فيها لبنان من فوائد، فهي من دون أدنى شكّ إظهارها لمهزلة الاستيراد التي يعتمد عليها الاقتصاد اللبناني. فشحّ الدولار في الأسواق كشف أن لا أمن غذائي ولا حراري ولا إجتماعي ولا إقتصادي في لبنان. نعم إنها النتيجة التعسة لعقود من السياسات المالية للحكومات المُتعاقبة التي اعتمدت على الريع والخدمات بدل بناء إقتصاد إنتاجي تكون فيه للقطاعين الأوّلي والثانوي المكانة التي تؤمّن استدامة واستقلالية (أقلّه غذائية) للمواطن اللبناني.
بلد القمح أصبح يستورد 131 مليون دولار أميركي أي ما يوازي 576 ألف طن سنويا (أرقام 2018). كما يستورد لبنان أبقارا حيّة بقيمة 382 مليون دولار أميركي أي ما يوازي 144 ألف طن، أمّا السيارات السياحية فتبلغ قيمة الإستيراد السنوية منها 1.2 مليار دولار أميركي!!
20 مليار دولار أميركي قيمة الإستيراد السنوي للبنان مقارنة بتصدير لا يزيد عن الـ 3 مليار دولار أميركي. والأصعب
أن قيمة إستيراد المواد الغذائية تقارب الـ 7 مليار دولار أميركي مما يعني أن لبنان يعيش غذائيًا على الإستيراد وإذا لم يتمّ إستيراد المواد الغذائية فهناك مُشكلة. أين الأمن الغذائي للبنان؟ مُستوردو الدواجن يرفعون الصرخة لأنهم يُريدون دولارات بالسعر الرسمي لإستيراد الأغذية للدواجن! عن أي أمن غذائي نتحدّث؟
فعلا إنها مهزلة أن نرى قطاعات على مرّ عقود إعتاشت على الإستيراد ولم تُفكّر يومًا بإنتاج السلع والبضائع في لبنان. وإذا كان من الصعب ملامة التجّار الذين يسعون وراء الربح، إلا أنه لا يُمكننا إعفاء الحكومات المُتعاقبة من مسؤولياتها تجاه الإقتصاد وهي التي كان من المفروض أن تُوجّه الإستثمارات في العقد الماضي (أقلّه) إلى القطاعات الإنتاجية.
ثلاث عشرة حكومة تعاقبت على الحكم في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية وحتى اليوم. 13 حكومة ولم يتم تنفيذ أيّ خطّة إقتصادية تخلق هيكلية سليمة ومُستدامة للإقتصاد اللبناني. وكأن هذا لا يكفي تفشّى الفساد في القطاع العام والقطاع الخاص إلى مستويات قضت على كل قواعد اللعبة الإقتصادية بحكم الإنحياز إلى عدد محدود من المُستثمرين والشركات التي إحتكرت الأسواق ولكن أيضًا ثروات البلد مع أكثر من 67% من الشعب اللبناني يمتلكون ثروة أقلّ من 15 مليون ليرة مقارنة بـ أقلّ من 3% يمتلكون نصف ثروة لبنان.
على كل الأحوال، إنتفاضة 17 تشرين 2019 قلبت الموازين وباعتقادنا لا يُمكن لمنهجية العمل أن تستمر على الحال نفسه بحكم أن التردّي في مالية الدولة لا يُعطي أكثر من سنة من الإستمرارية إذا ما بقيت الأمور على حالها كما هي اليوم.
من هذا المُنطلق، نرى أن الفرصة سانحة لوقف مهزلة الإستيراد ومهزلة الإحتكارات التي يعيشها لبنان. هذه الأخيرة تُشكّل أكبر مخالفة للدستور اللبناني الذي نصّ على أن الإقتصاد اللبناني هو إقتصاد حرّ وبالتالي هناك تنافسية تضمنها قوانين غائبة في لبنان! نعم إنها غائبة بإرادة واضحة من أصحاب النفوذ.
الإقتراح الذي نقدّمه ينصّ على عدد من الخطوات التي تتوزّع على الشكل الآتي :
أولا ـ على الصعيد الإقتصادي: تأمين أملاك عامّة من أجل تأجيرها لمستثمرين بهدف زرع مواد غذائية مثل القمح وإنشاء مصانع للمواد الغذائية التي يستوردها لبنان. على هذا الصعيد، يُمكن وضع لائحة بأول 50 منتجاً غذائياً يستوردها لبنان ودراسة إمكانية زراعة أو تصنيع هذه المنتجات في لبنان.
الجدير ذكره أن استئجار عقار لبناء مصنع أو زراعة نبات أو تربية دواجن تُشكل أكثر من نصف قيمة الإستثمار. من هذا المُنطلق، إنشاء مدن صناعية وتكنولوجية وزراعية ستُشكّل دافعاً رئيسياً للمُستثمرين.
ثانيًا ـ على الصعيد المالي ـ الضريبي: تأمين قروض للمُستثمرين الذين يرغبون في إنشاء مصانع أو القيام بزراعة مواد غذائية بفوائد معقولة مع سلة من الإعفاءات الضريبية إن على صعيد ضريبة الدخل أو على صعيد إشتراكات الضمان شرط توظيف لبنانيين.
أيضًا من المفروض فرض رسوم إضافية تصل إلى أكثر من 100% على السلع والبضائع التي لها مثيل في لبنان مع التشديد على تطبيق هذه الإجراءات على الحدود البرية، البحرية والجوّية. كما يتوجّب عدم تأمين دولارات بالسعر الرسمي لكل من يستورد سلع وبضائع لها مثيل في لبنان.
ثالثًا ـ على الصعيد الإداري: تسهيل عملية خلق الشركات لتقتصر على فترة زمنية لا تزيد عن يومين.
هذه الإجراءات كفيلة بوضع الإقتصاد اللبناني على السكة الصحيحة، لكن ماذا عن المالية العامّة؟
الفكرة تشمل عدداً من الإجراءات التي تهدف إلى تدارك التراجع المالي للخزينة العامة والذي تخطّى الخط الأحمر. وهذا ما أكّده وزير المال علي حسن خليل الذي صرّح أن إيرادات الخزينة أصبحت شبه معدومة منذ تاريخ 17 تشرين 2019.
هذه الإجراءات تشمل:
أولاً ـ وقف كل النفقات باسثتناء أجور القطاع العام، إستحقاقات الدين العام وبعض النفقات التي لها طابع حيوي؛
ثانيًا ـ ملاحقة الأموال التي هي من حقّ الدولة ويتم التحايل على هذه الأخيرة فيها. وبالتالي يتوجّب التوجه إلى الجمارك لكيّ يتم فرض سيادة الدولة المالية التي تمّ انتهاكها بواسطة عصابات تهريب جمركي بحرًا، برًا وجوًا! أيضًا هناك التحاويل لشركة كهرباء لبنان لشراء الفيول وبالتالي يتوجّب إستيراد الفيول مباشرة من قبل الدولة أو وقف الكهرباء كليا حتى استكمال تنفيذ خطّة الكهرباء.
ومن الإجراءات، يجب ملاحقة الأملاك البحرية، النهرية وسكك الحديد مع أكثر من 30 مليون متر مربع من الأملاك المُستباحة. وهنا تتوجّب إعادة تقييم بدل إشغال هذه الأملاك بشكل يليق بسيادة الدولة. ولا يجب نسيان المناقصات العمومية التي تُحمّل الخزينة خسائر لا تُحصى ولا تُعدّ بالإضافة إلى العديد من الخطوات التي تُساعد في تحصيل حقّ الدولة.
ثالثًا ـ إعادة هيكلة القطاع العام من خلال إحصاء الموظفين والمتعاقدين مع وصف وظيفي لكل شخص ومن ثم إعادة توزيع هذه القوة البشرية بشكل يرفع من فعالية القطاع العام. أيضًا يتوجب المضي قدمًا في مكننة الإدارة العامة وإنشاء الحكومة الإلكترونية بهدف تخفيف حجم الفساد.
أيضًا من بين الأمور الأساسية اعتماد مبدأ المداورة في وظائف الإدارة العامة بحيث لا يبقى شخص في منصبه أكثر من فترة مُعيّنة.
بالطبع كل ما تقدّمنا به لا يُمكن أن يتمّ من دون وجود حكومة تقوم بهذا العمل الذي يحتاج إلى رغبة سياسية وإرادة قوية للعمل على إنقاذ الوطن من أتون الإفلاس.