Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر November 29, 2020
A A A
اغتيال فخري زادة.. الرد الإيراني وقواعد الاشتباك
الكاتب: علي فواز - الميادين

الحادث على درجة عالية من الخطورة. يعتبر بعض المراقبين أن هدفه خلط الأوراق قبل مجيء بايدن فيما يرى آخرون أن المستهدف هو قدرات إيران التي يمثل الشهيد المغدور أحد أوجهها العلمية البارزة. إنه الهدف الدائم بمعزل عن أي إدارة أميركية.
محسن فخري زادة ليس أول عالم إيراني يتم اغتياله. خلال السنوات الماضية جرى استهداف عدد من العلماء الإيرانيين في المجال النووي. لكن رئيس منظمة البحث والتطوير في وزارة الدفاع الإيرانية شخصية مختلفة. من وزن مختلف.
من المؤكد أن الرجل كان له دور كبير في الأبحاث النووية وفي الأبحاث الصاروخية. لكن أبحاثه تعدّت ذلك، وجرى التداول في دوره عن قرب التوصّل إلى لقاح لمرض الكورونا في إيران. لقاح وصل إلى مراحل متقدمة من الاختبار وبات بحسب أوساط إيرانية جاهزاً للاختبارات البشرية. هو كان أستاذ الفيزياء النووية في جامعة الامام الحسين في طهران، وكان أستاذاً لبعض العلماء النوويين الذين تم اغتيالهم. يمكن القول إنه من أهم الشخصيات في مجالات عمله وينسب له المساهمة في تطوير القدرات العسكرية الإيرانية.
المدير العام السابق لوزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، يوسي كوبرفسر، أشار إلى أن “فخري زادة هو سليماني البرنامج النووي”. وقال حول الاغتيال إن “حادثاً من هذا النوع يمكن أن تنفذه إسرائيل والولايات المتحدة فقط”.
لم يتأخر الإيرانيون. سرعة التشخيص وتحديد الفاعل والإعلان عنه مهم هنا بقدر أهمية توقيت عملية الاغتيال. ثلاثة أطراف حددها قائد الجيش الإيراني هي الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ومنظمة مجاهدي خلق. أهمية هذا الإعلان أنه جعل إيران ملتزمة بالرد. التزام يترتب بناء عليه تحديد أبعاد الردّ ومستواه ودائرته وأهدافه. مساحة الخيارات مفتوحة بحسب ما يفهم من كلام اللواء عبدالرحيم موسوي الذي شدّد على الانتقام “في أي مجال آخر”.
في السنوات الأخيرة كان الإيرانيون يقتربون رويداً من ترسيخ قواعد اشتباك جديدة في المنطقة. فعلوا ذلك مرات عدة في مضيق هرمز، وما بعده وصولاً إلى فنزويلا، وتجلى الأمر بوضوح في الرد على عملية اغتيال الفريق قاسم سليماني.
في حالة سليماني جاء الرد مباشراً وحازماً وواضحاً ومفاجئاً. رغم ذلك وضعت القيادة الإيرانية عملية استهداف قاعدة عين الأسد في إطار الرد الأولي وأعلنت أن الرد الحقيقي هو إخراج أميركا من غرب آسيا.
سجّلت إيران أنها الدولة الأولى التي تستهدف الولايات المتحدة بشكل مباشر من دون ردّ بعد الحرب العالمية الثانية. وضعت منذ اغتيال سليماني قواعد جديدة: العين بالعين والرد بالمثل.
كانت لافتة بعد بضعة ساعات من اغتيال فخري زادة ما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” نقلاً عن 3 مسؤولين استخبارايين أميركيين: “إسرائيل” تقف خلف اغتيال فخري زاده. هل هناك أطراف معينة في أميركا تحاول فض يدها عن العملية والتبرؤ من المسؤولية؟
مضى بعض الوقت قبل أن يصرح المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية جون برينان أن اغتيال فخري زاده عمل إجرامي ومتهور للغاية. قال أيضاً أن الاغتيال قد يتسبب بجولة انتقام وصراع إقليمي مميت.
الحادث على درجة عالية من الخطورة. يحاجج البعض رغم ذلك من أن المنطقة غير ذاهبة إلى مواجهة واسعة ربطاً بموازين القوى وقوة الردع لدى محور المقاومة، لكن عن أي أميركا نتحدث؟ أميركا ترامب أم أميركا بايدن؟
بمعزل عن هذا وذاك، يشدّد البعض على وجود سعي أميركي دائم، بغض النظر عن أي إدارة، إلى إضعاف قدرات إيران. فخري زاده وبمعزل عن أي تحوّل سياسي في أميركا هو مستهدف من الأجهزة الأميركية والإسرائيلية على السواء. الصحافي الاسرائيلي يوسي ميلمان كتب أن العالم المغدور كان رئيساً لبرنامج إيران العسكري السري، وأنه كان مطلوباً لدى جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد” على مدى سنين.
لا يمكن من هذا المنظار اختصار الأمر على أنه خلط أوراق وتعقيد الأمور على جو بايدن. ينصح بعض الخبراء هنا في ضرورة الفصل بين الملف السياسي والملف العسكري والأمني.
واضح أن إدارة بايدن الجديدة وبعض أوساط الدولة العميقة لا يرغبون بالتصعيد. “إسرائيل” ليس لديها القدرة على المبادرة لكن لدى بنيامين نتيناهو الرغبة بخلق واقع جديد أو تنفيذ علمليات يتباهى بها من دون أن يدفع ثمنها.
لهذا السبب شهدنا طوال السنوات الفائتة نوعاً آخر من الصراع. حروب بالوكالة، وعمليات من دون بصمات، وما يسمى بـ”المعركة بين الحروب”.
الحروب السيبرانية بدورها لم تتوقف. أواخر الشهر الماضي قطعت الكهرباء عن مناطق واسعة من المدن الإسرائيلية لمدة تزيد عن 40 دقيقة. نُسب الأمر إلى هجمات سيبرانية. وفي تموز الماضي تعرضت مصلحة المياه الإسرائيلية لهجوم سيبراني، سبقه هجوم في نيسان.
خلال الصيف الماضي تعرضت إيران إلى سلسلة من الحرائق والانفجارات الغامضة، منها ما طال منشآت حيوية مثل منشأة “نطنز” النووية، وميناء بوشهر. بالمقابل شهدت الولايات المتحدة حوادث غامضة وحرائق متنقلة منها حريق البارجة العملاقة في قاعدة ساندييغو وحريق في مصنع للمواد الكيماوية وآخر في مصنع للصلب. اتهمت إلى جانب إيران روسيا والصين بالوقوف وراءها.
ينشغل المراقبون اليوم بطبيعة الرد الإيراني. كيف وأين ومن سيستهدف؟ في اتجاه الولايات المتحدة أم “إسرائيل” أم منظمة “مجاهدي خلق”، أو يكون بمستوى آخر وطبيعة مختلفة؟
توجيه أصابع الاتهام إلى “إسرائيل” جاء على لسان أكثر من مسؤول إيراني. محمد جواد ظريف أشار في تغريدة على تويتر إلى أن الاغتيال يحمل “مؤشرات جدية” و”علامات واضحة” إلى دورها.
مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدفاعية العميد حسين دهقان قال: “في الأيام الأخيرة لحليفهم المقامر يريد الصهاينة فتح حرب شاملة نحن لها”.
الإسرائيليون لم يتبنوا العملية إلا أن بنيامين نتنياهو لمّح إلى مسوؤليته بحسب ما نقلت وسائل إعلام إسرائيلية. رئيس الحكومة الإسرائيلي كان ذكر فخري زادة بالاسم علناً عام في أحد مؤتمراته عام 2018. عرض صورته عندما كان يكشف عن ما أسماه “الأرشيف النووي السري” الإيراني، وقال “تذكروا هذا الاسم جيدا”. وسائل إعلام إسرائيلية أعلنت سابقاً أن “خطة لاغتياله فشلت قبل أعوام”.
رغم ذلك يرى بعض المراقبين أن طهران لن تنجر إلى المربع الذي تريده “إسرائيل”. في الوقت نفسه سوف يكون هناك رد مؤكد كما جاء على لسان أكثر من مسؤول إيراني. بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب لديهما مصلحة في توتير الساحة كل لحساباته. “إسرائيل” لا تملك القدرة على المبادرة وتريد بدلاً من ذلك أن تخوضها الولايات المتحدة عنها. ترامب مقيد لأن صلاحية الحرب من اختصاص الكونغرس الذي لن يسمح له بالذهاب إليها.
ثمة من يضع الاجتماع الثلاثي الأخير في مدينة نيوم بين نتنياهو وبومبيو وبن سلمان في إطار محاولة خلق واقع جديد استباقاً أو تحضيراً لمرحلة بايدن. من أدوات هذا الواقع توتير المنطقة وجر إيران إلى عمل يقطع طريق بايدن للوصول إلى تفاهمات معها على شاكلة العودة إلى الاتفاق النووي.
محاولة إغلاق كل الطرق الدبلوماسية المتوقعة بين واشنطن وطهران يمكن أن تتحقق بعملية من هذا النوع. عملية تستفز إيران وتدفعها إلى الرد بنفس المستوى أو بمستوى أعلى، فتتدحرج الأمور. لدى ترامب صلاحية واحدة يمكن أن يستخدم فيها الجيش الأميركي وهي حالة الدفاع عن النفس.