Beirut weather 16.41 ° C
تاريخ النشر August 6, 2023
A A A
استراتيجيّة التحوّل الرقمي والقوانين التشريعيّة اللازمة في لبنان
الكاتب: أ.د. وديعة الأميوني- استاذة جامعيّة وباحثة اجتماعيّة

 

يساهم التحوّل الرقمي في تحسين الخدمات والعمليّات والتواصل بين المؤسسات والمواطنين، ويواجه لبنان على هذا المستوى الكثير من التحدّيات، مثل ضعف البنية التحتيّة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والأمن الإلكتروني والحماية من الاختراقات والهجمات السيبرانيّة، وغياب التشريعات والسياسات اللازمة لأجل تعزيز الرقمنة وحماية حقوق المستخدمين والبيانات الشخصيّة. نضيف الى ذلك التحديات الاقتصاديّة وضعف الموارد الماليّة التي تؤثر على قدرة الاستثمار وتطوير البنى التحتيّة الرقميّة ونشر الوعي والتدريب للتأقلم مع التغيّرات التقنيّة المعاصرة. وتبقى هنا مسألة غياب التشريعات والسياسات أحد أهم العناصر المعرقلة في تحقيق الرقمنة بشكل شفّاف وآمن. فالاستراتيجية الوطنية للتحوّل الرقمي في لبنان 20 – 30، التي ناقشها مجلس الوزراء في جلستيه الأخيرتين ربيع عام ۲٠۲۲، لا يمكن تطبيقها مثلًا دون تحديد الاطر القانونيّة التي يجب ان ترسم الشروط الاساسية للوصول الى سياسات اجرائيّة وقرارات فعّالة، استنادًا إلى تشريعات واضحة وضامنة لحسن سير تطبيق التحوّل الرقمي في لبنان، وقد يترتّب على المشرّعين هنا الأخذ بنصوص دوليّة سبيلًا هامًا في تكوين فهم موضوعي حول مضمون القوانين وبنودها وموادها وخطوات وآليات تنفيذها إسوة بالحكومات الّتي تحوّلت رقميًا وتطوّرت قدمًا بفعل توفير الرقمنة وشروط الشفافية والحوكمة الرشيدة.
لم يتم في لبنان، إلى حدّ اليوم، وبعد حوالي أكثر من عشرين عامًا من التداول في مفهوم التحوّل الرقمي والحكومة والحوكمة الرشيدة، إقرار سوى القليل من القوانين المعنيّة الّتي لم تأخذ مراسيم تطبيقيّة بمعظمها، بل أنّ البيئة القانونيّة في لبنان بقيت بدائية على هذا المستوى ولم تعط أهمية (وربما عن قصد) لمفاعيل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في محاربة الهدر والفساد ودعم الشفافية وبناء مؤسسات الدولة المنهارة الّتي نخرها النهب والمحاصصات لعقود طويلة من الزمن. من هنا تبقى الحاجة إلى الكثير من التشريعات والمراسيم والمبادرات كشرط أساسي لإعادة هيكلة البناء المؤسساتي العام وتبنّي سياسات التحوّل الرقمي التي تفضي الى الابتكار والإبداع وزيادة مداخيل الدولة ومواكبة التطوّرات التكنولوجيّة، التي أفرزت مجتمعًا معلوماتيًّا حديثًا وجيلًا رقميًا سبق حكّامه في التفكير والتخطيط والاستثمار، وأدخل ما يُعرف باقتصاد المعرفة الذي وصلت مداخيله في البلدان المتطوّرة مثلًا الى مليارات الدولارات في حالة الابتكار الافتراضي.
يندرج التحوّل الرقمي خارج أطر الغرف المظلمة للطبقة السياسيّة وبرامجها المعلّبة في الفساد والرشوة والسرقات والمحسوبيّات، التي لم يتمخض عنها سوى الفشل والانهيار، علمًا أنّ لبنان انضمّ الى اتفاقية الأمم المتّحدة لمكافحة الفساد UNCAC في ۲۲ نيسان من عام ۲٠٠٩ لأجل تغطية مجالات التدابير الوقائية والتجريم وانفاذ القانون والتعاون الدولي واسترداد الأصول والمساعدة التقنيّة وتبادل المعلومات، وبالتالي محاربة كل أشكال الفساد في الدولة اللبنانية مثل الرشوة والمتاجرة بالنفوذ وإساءة إستغلال المناصب وأفعال فساد مختلفة في القطاع الخاص. فأين لبنان من هذه الاتفاقية؟ وكيف ولماذا انهار اقتصاده اذًا عام ۲٠۱٩؟ ألم يحن الوقت لاستحداث قوانين وتشريعات عصريّة وداعمة؟
لا زالت القوانين والأنظمة المتعلقة بالتحوّل الرقمي في لبنان تحتاج الى الكثير من الاقتراحات والمراسيم من قبل السلطات التشريعية والتنفيذيّة لأجل مواكبة التطوّرات، وصولًا الى تطبيق الحكومة والحوكمة الرقميّة الرشيدة المحاربة للفساد. ونعرض هنا بعضًا من أهم القوانين المقترحة التي يجب أن تدخل حيّذ التنفيذ لكي ينضم لبنان الى نادي الدول المتقدمة التي لحقت ركاب الثورة الصناعية الرابعة والاقتصاد المعرفي والرقمي والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات. وعليه، نعرض اهم القوانين التي وردت في الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي في لبنان التي يجب متابعتها ودراستها واقرارها وتطبيقها، وتأتي كالتالي:
1- قانون التعريف الموحّد UINL، تمّ اقتراحه في ۲۲ تشرين الأول ۲٠۱۲ وأخذ مرسومًا تنفيذيًا في ۱۷ شباط ۲٠۱۷، أي بعد أكثر من خمس سنوات. ينص على فرض العمل به في كافة إدارات القطاع العام والمؤسسات العامة والبلديات من خلال قبول رقم التعريف الموحّد، علمًا ان المرسوم الحكومي رقم ۱٦۸ كان قد حدّد قواعد وطرق اعتماد رقم الهويّة الموحّد في القطاع العام. أين نحن من تطبيق هذا القانون اليوم؟؟
2- قانون حق الوصول الى المعلومات RAIL، تم اقتراحه في ۱۷ شباط ۲٠۱۷، وهو يسمح للمواطن بالوصول الى المستندات الادارية الرسمية، وينصّ على وجوب توضيح سبب رفض تزويد أي ادارة عامة الطرف المعني بالمعلومات والمستندات التي يطلبها. صدر مرسوم تطبيقي لهذا القانون في ۲۸ تموز ۲٠۲٠، أي بعد أكثر من ثلاث سنوات، فأين نحن من التطبيق الفعلي لهذا القانون على مستوى العلاقة الجدليّة بين المواطن ودولته؟
يقترح قانون الحق في الوصول الى المعلومات RAIL وقانون المعاملات الالكترونيّة وحماية البيانات ذات الطابع الشخصي (۲۸/۲٠۱۷) إنشاء وحدات داخلية خاصة بالتحوّل الرقمي ( DTU) في كلّ وزارة بهدف تنفيذ الخطط والمشاركة في مشاريع التكنولوجيا الجديدة والتحوّل الرقمي. وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ قانون المعاملات الالكترونية طالته تغييرات عديدة على مدى سنوات، لكنه لم يلحظ تأسيس هيئة قضائية مستقلة تصدر الأحكام المتخصصة في هذا المجال.
3- قانون المعاملات الالكترونيّة وحماية البيانات ذات الطابع الشخصي، رقم ۸۱/۲٠۱۸، تاريخ ۱٠ أكتوبر ۲٠۱۸، وهو يغطّي عدد من النواحي القانونيّة التي تتعلق بالتجارة الالكترونيّة وخدمات المصادقة والإتّصال والبطاقات المصرفيّة والنقود الرقميّة والالكترونيّة ومستضيفي البيانات وحركتها والهويّة الرقمية والتوقيع الرقمي. لم يأخذ هذا القانون حقه على رغم أهميّته في مواكبة الحركة الاقتصادية والتطوّرات التكنولوجية الّتي تسرّع من العمليّات والخدمات وتحمي البيانات، الأمر الّذي يُسهم في زيادة الدخل وفرص العمل ومواكبة متطلبات التحوّل الرقمي.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنَّ قانون حماية المستهلك (رقم ٦٥٩/۲٠٠٥ تاريخ ٤ شباط ۲٠٠٥) قد تمّ تعديله بموجب قانون المعاملات الالكترونية ( ۸۱/ ۲٠۱۸) حيث يعرّف المستهلك في المادة ۲ منه على أنّه الشخص الطبيعي أو المعنوي الّذي يشتري خدمة أو سلعة أو يستأجرها أو يستعملها أو يستفيد منها، كلّ ذلك بما يمكن أن يفيد الخدمات الرقمية المقدّمة الى المؤسسات أو المواطنين.
هذا وقد أعدَّ مكتب وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية OMSAR مشروع مرسوم “سجل أسماء نطاقات الإنترنت” بهدف تغطية النواحي المتعلقة بإدارة أسماء النطاقات والسجل الخاص بالهيئة الوطنية، وذلك بموجب قانون المعاملات الالكترونيّة وحماية البيانات ذات الطابع الشخصي (رقم ۸۱/ ۲٠۱۸)، لكنه لم يأخذ حيّذ التنفيذ.
4- قانون البرمجة والروبوتيك والذكاء الاصطناعي، أقرّه مجلس النواب تاريخ ۲۱ شباط ۲٠۲۲ بهدف إدخال مادة البرمجة والروبوتيك والذكاء الاصطناعي في المناهج المدرسيّة، تماشيًا مع التطورات التكنولوجية وحاجيات السوق العالميّة. لكن الأمر يجب أن يتعدى ذلك ليصل الى التشريعات المواكبة للتطورات الهائلة في هذا المجال وملاءمتها مع القوانين الدوليّة.
هذا وطرحت “الاستراتيجية الوطنية للتحوّل الرقمي 20 – 30” في المسودّة المعدّلة تاريخ آذار ۲٠۲۲، بالتنسيق مع لجنة تكنولوجيا المعلومات النيابيّة آنذاك، عددًا من اقتراحات القوانين التي يجب متابعتها ودراستها بشكل جدّي في اللجان البرلمانيّة المختصّة وصولًا الى اعطائها مراسيم تطبيقيّة على طاولة مجلس الوزراء، وأيضًا نلخّص أهمّها كالتالي:
۱- قانون المشتريات الالكترونيّة الذي أعدّه مكتب وزارة الدولة لشؤون التنمية الادارية بهدف تمكين اجراء أنشطة المشتريات الالكترونية للمناقصات الحكوميّة
۲- قانون الحكومة الرقميّة E-Government مع توضيح الالتباس والتشابه بينه وبين المواد التشريعيّة ذات الصلة بقانون المعاملات الالكترونيّة وحماية البيانات وباقي القوانين السارية
۳- قانون تصنيف البيانات كشرط أساسي لحمايتها وخصوصيتها بهدف استمرار تحسينها في القطاع العام أو الخاص
٤- قانون حماية البيانات الذي يفترض تعديل الباب الخامس من القانون رقم ۸۱/ ۲٠۱۸ وحماية البيانات ذات الطابع الشخصي
٥- قانون خصوصية البيانات الذي يتطلّب أيضًا تعديل الباب الخامس من القانون رقم ۸۱/ ۲٠۱۸ وحماية المتطلبات المتعلقة بخصوصيّة البيانات
٦- قانون الاحتفاظ بالبيانات (DRL)، بهدف حفظ القانونيّة منها، والمؤسّسية على رغم تبادلها أحيانًا، وتأتي هنا أهمية القانون الّذي ينصّ على الإحتفاظ بالبيانات المتعلقة بشخص أو هيئة لفترة زمنية محددة، إسوة بالدول المتقدمة مثل سويسرا والاتحاد الأوروبي وأوستراليا وغيرها من الدول
۷- قانون الإتّصالات الرقمية (DCL) بهدف معالجة المشاكل المتعلقة بالإساءة والكراهية والمضايقة والتنمّر عبر الانترنت وقنوات الإتّصال الرقمي كالرسائل والتغريد والتواصل الاجتماعي ونشر الموسيقى والفيديوهات التجاريّة والإعلان عبر الإنترنت والإحتيال الإستهلاكي والوصول الى المعلومات العامة وغيرها. الأمر الذي يتطلّب تعديلات على قانون سريّة التخابر الهاتفي (قانون رقم ۱٤٤/۱٩٩٩) لتطال الاتّصالات الرقميّة
۸- قانون الحقوق الرقميّة، لأجل ضمان حق المواطنين والقطاع الخاص في التواصل بشكل رقمي مع القطاع العام بموجب “مبدأ تقديم المعلومات لمرّة واحدة فقط” والشفافية والحكومة المفتوحة وحماية البيانات
٩- قانون إساءة استخدام الكمبيوتر (CLM) بهدف الحماية من التعدّيات المتعمّدة وسرقة المعلومات كالقرصنة والوصول غير المصرّح به الى نظم الكمبيوتر ونشر البرمجيّات الضارة والخبيثة وبرمجيّات التجسّس والفيروسات، كذلك حماية بيانات ونظم الكمبيوتر في الوصول غير المصرّح به أو التعديل غير القانوني، والى حماية مستخدمي الكمبيوتر من التعدّيات المتعمّدة والمدبّرة ومن سرقة المعلومات عبر القرصنة أو نشر برمجيات الفدية وغيرها. تُعتبر الجرائم هنا جنائية وعليه يجدر تعديل قانون العقوبات وتعديل الباب السادس الخاص بقانون المعاملات الالكترونية وحماية البيانات ذات الطابع الشخصي
۱٠- قانون التجارة الالكترونيّة وضرورة تعديل الفصل الثاني في ما يطال التجارة والعقود الالكترونيّة من قانون المعاملات الالكترونيّة وحماية البيانات
۱۱- قانون بيانات الحكومة المفتوحة الذي يجب أن يتماشى مع قانون الحق في الوصول الى المعلومات (RAIL) وقانون المعاملات الالكترونيّة وحماية البيانات وقانون تصنيف البيانات، وذلك إسوة بعدد من البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ( OECD) التي فرضت قوانين وأنظمة تتناول المسائل المتعلقة ببيانات الحكومة المفتوحة (OGD) وسياسات واجراءات التنفيذ
۱۲- قانون سلطات التحقيق (IPL) الّذي يهدف الى الإشراف المستقلّ على استخدام أجهزة المخابرات وهيئات انفاذ القانون لسلطات التحقيق عند مراقبتها للبيانات بهدف الكشف عن الجرائم ومنعها. ويطبّق هذا القانون الى جانب القوانين المتعلقة بخصوصيّة البيانات وحمايتها والاحتفاظ بها، ويتضمّن السماح باعتراض الإتّصالات الالكترونيّة والبيانات المخزّنة ومصادرتها واستخدامها، وبالمراقبة السريّة للأفراد والمؤسسات، بما في ذلك بصماتهم وأنشطتهم الرقميّة
۱۳- قانون مكافحة الفساد الذي قدّمه مكتب وزارة التنمية الاداريّة الى مجلس الوزراء وتمّ اقراره في أيّار ۲٠۲٠، وعرض أهمية التحوّل الرقمي في تقليص التعامل الشخصي بين موظفي القطاع العام والمواطنين بشكل كبير، الامر الذي يؤدي الى تكامل استراتيجيّة التحوّل الرقمي مع الاستراتيجيّة الوطنيّة لمكافحة الفساد والخطة التنفيذية العائدة لها، بهدف تحسين مستوى معيشة كافة المواطنين وتحقيق الازدهار الاقتصادي في لبنان.
أخيرًا نقول، أنّ الاستراتيجية الوطنيّة للتحوّل الرقمي 20-30 لا يمكن تحقيقها ما لم توضع قوانين وتشريعات داعمة ومواكبة، بل تحتاج الى تطوير التشريعات المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمجال السيبراني، ومعالجة المسائل القانونيّة المتعلقة بالشواغل الوطنية والتماشي مع التطورات والقوانين الدوليّة، كذلك التنسيق مع المجتمع المدني المتخصص والحقوقيين لأجل الاستشارات العامة والقانونيّة والتوفيق بين كافة الدوائر الحكوميّة حول تحويل المعاملات الورقيّة الى عمليات رقميّة مبتكرة. هذا وقد لاقت الكثير من البلدان التي شرّعت القوانين المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات نجاحًا في عملية التحوّل الرقمي لديها، وساهمت هذه القوانين في تحديد القواعد التي يجب اتبّاعها للإستثمارات العامة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومعايير اختيار التكنولوجيا، الامر الذي انعكس على زيادة المداخيل وتنمية وتطوير الاقتصاد والسياسات، ونحن على أمل في لبنان تطبيق هذه الاستراتيجية الوطنيّة للتحوّل الرقمي لأجل اعادة بناء مؤسسات الدولة وتطويرها عملًا بمبدأ الشفافيّة، بعيدًا عن الفساد والسرقات والمحسوبيات التي دمّرت الدولة اللبنانيّة وأفلستها.