Beirut weather 30.21 ° C
تاريخ النشر July 9, 2016
A A A
إنتحار 6 لبنانيين خلال 20 يوماً… «ما ضل للحياة مطرح؟»
الكاتب: ناتالي اقليموس - الجمهورية

يجلس عماد (58 عاماً) على كرسيّ أمام متجره في الدكوانة، مرّةً يُحدّق في الأهالي المنشغلين في شراء الحلويات «حلوينة» نجاح أولادهم في الامتحانات الرسمية، ومراراً يتأمّل صورة ابنته المرحومة المعلّقة على الحائط… تصعب معرفة فحوى حوار النظرات الذي دار بين الأب المشتاق وروح ابنته، إلّا أنّ دمعتَه كادت تُفشي سرَّ نكبتِه بينما كان يُتمتم لاعناً ذاك اليوم المشؤوم والرزنامة برُمَّتها: «رَيتني مِتّ قبلها!». ففي هذه الفترة مِن كلّ عام يتذكّر عماد ابنتَه التي لم تحتمل خبرَ رسوبها في الامتحانات وفضّلت وضع حدٍّ لحياتها…

تشهد ظاهرة «الانتحار» اتّساعاً ملحوظاً في الأعوام الاخيرة، وبحسب إحصاءات قوى الأمن الداخلي الخاصة لـ»الجمهورية»، انتحَر 101 العام 2011، و108 العام 2012، و111 العام 2013، و143 العام 2014، لتبقى النسبة في ارتفاع ملحوظ، حتى يسجّل العام 2016، وتحديداً في أوّل 20 يوم من السنة، إنتحارَ 7 مواطنين (6 لبنانيين وأجنبي).

تتعدّد وسائل الانتحار المستخدَمة وتتنوّع، لم يتردّد زياد (47 عاماً) في إطلاق النار على نفسه وهو نائمٌ في فراشه. كلّ مَن تعرَّفَ إلى زياد حسَده على حسّ المغامرة لديه وتعلّقِه بالحياة، فما يُنتجه من عمله الخاص كان يَصرفه على هواياته وتطوير قدراته البدنية، على اعتبار «ما في خلفو ولا إدّامو… أعزب»… إلى أن تعرّضَ إلى حادثٍ أصابَه بالشلل.

في الفترة الأولى حافَظ زياد على معنوياته مرتفعةً في المستشفى، وظلّ مصِرّاً على مواجهة الصعاب، فخضَع لمختلف العلاجات وأبدى تحسُّناً، ولكن لم يتمكّن مِن استعادة قدرته على المشي، أقلّه لقضاء حاجته. في الظاهر بدا زياد متأقلماً مع وضعه، متحمّساً للبحث عن بدائلَ تمكّنه مِن العيش، إلى أن خرج من المستشفى لينتقلَ ويكمل حياته في شقّة يملكها.

في الظاهر لم يُبدِ زياد أيّ ردّة فعل سلبية، بل حافظ على بشاشة وجهه مع ضيوفه ومحبّيه، إلّا أنّه في الباطن كصحراء ذبَحتها شمسُ الظهيرة، يتفتّت ألماً، خجَلاً، إحتراقاً وعزةَ نفسٍ حيالَ الوضع المزري الذي بلغَه، لا سيّماً في اللحظات المعدودة التي كانت تتمّ فيها مساعدته لقضاء حاجته. تباعاً تهاوَت معنويات زياد إلى أن قرّر منذ مدّة قصيرة أن يغفوَ غفوَته الأبدية.

الإناث يحاولن أكثر
في هذا السياق، وفي ضوء تتبُّع القوى الأمنية لجرائم الانتحار، يوضح مصدر أمنيّ: «الأعوامُ الماضية أظهرَت أنّ مقابلَ كلّ 5 حالات انتحار لبنانية، أجنبيّ واحد». وردّاً على سؤال، أيّ فئة أكثر ميلاً إلى الانتحار؟ يجيب: «الإناث يحاولنَ أكثرَ من الذكور في لبنان، ولكنْ غالباً ما يفشَلن، فيما معظم الذكور الذين يحاولون ينجحون في وضعِ حدٍّ لحياتهم، لذا يحتلّون النسبة الأكبر من المنتحرين». ويقول لـ«الجمهورية»: «على سبيل المثال، العام 2015 كان بين كلّ 15 حالة انتحار 6 إناث». أمّا بالنسبة إلى أكثر وسائل الانتحار استخداماً، فيقول: «إطلاق النار يأتي في المرتبة الأولى، يليه تناولُ مادة سامّة، ثمّ الرمي بالنفس، وهذه الوسيلة أكثر شيوعاً بين الأجانب، وتحديداً العاملات البنغلادشيات والسرلنكيات».

«كِل يوم بزيد حبّة»
كانت تستيقظ سهى (35 عاماً) مراراً قرابة منتصف الليل، تتلمّس الوسادة إلى جانبها، عسى أناملها تتحسّس فروةَ رأس رياض (42 عاماً)، ولكن في كلّ مرّة كانت تسترجع يدَها خائبةً، مُتمتمة: «أوف رياض ما رجِع».

في بداية الأمر كانت تتّصل به مستفسرةً، إلّا أنّه غالباً ما كان يقفِل في وجهها الخطّ، وعندما يعود يردّد على مسامعها معزوفتَه «وين بدّي كون غير مع رفقاتي» وهو يتمايل. دامَ الوضع على حاله أشهراً، حتى إنّ الزوج رفضَ رغبة زوجته بالطلاق خوفاً من خسارة ميراث والدها «البنايات مين بيورَتُن؟». حاولت بدايةً مصارحةَ والدِها، علّه يساعدها، فكان الجواب المدوّي: «بعَيلتنا ما في طلاق، شو بيِحكو بكرا عنّا العالم».

أكثر ما كان يحزّ في نفس سهى أنّها كانت تعرف أخبارَ زوجها المهرول خلفَ النساء والمنهمك في لعِب «القمار»، ومراراً حاولَت مصارحتَه علّه يخجل أو يتوب، ولكنْ كانت الامور تتدهور بينهما. وما يزيد الطين بلّة، أنّها مجبَرة أن توحي للأقارب في اللقاءات بأنّها في أفضل أحوالها، ومِثل السمنة على العسل مع زوجها. أمّا ليلاً عندما تختلي بفراشها البارد، ووسادتها المهجورة من الأحلام، فتستدرك بأنّها تضحك على نفسها.

صَمدت سهى أكثرَ مِن عامين على هذه الحال، إلى أن وجَدت تعزيتَها بأدوية الأعصاب والمهدّئات. ووفقَ قاعدة «كِل يوم بزيد حبّة»، ككرَة ثلج بدأ الاكتئاب ينخر جسمَ سهى النحيل وبدأ نقصُ الحنان يزيدها إحباطاً، حتى إنّها لم تعُد ترُق لها فكرة ساعات النوم الطويلة وأرادت أن تغمض جفونَها لمرّة واحدة وأخيرة.

لذا حتى منتصف هذا العام حاولت الانتحار 4 مرّات بتناوُل كمّية كبيرة من المهدّئات، ولكن من دون أن تنجح في ذلك، ففي كلّ مرّة تنقلها عائلتها إلى المستشفى على أساس أنّها في حال تسمّم وبعد أقلّ مِن أسبوع تعود إلى منزلها وللمعاناة عينها.

الأسباب…
من جهته، يعتبر الاختصاصي في الإرشاد والتوجيه الزوجي والعائلي الدكتور رائد محسن «أنّ الانتحار غالباً ما ينتج عن مرض نفسيّ وتحديداً عن يأس، إذ يُخيّل للمريض بأنّ مشكلته هي الأكبر في العالم، ولا يمكن التعايش معها». ويوضح لـ«الجمهورية»: «كالوقوع بأزمة مادّية وعليه أن يوفّي الديونَ للناس، ولا أملَ لديه في تأمين المبلغ، وبما أنّه لا يهين عليه أن يكون مديوناً، فيُقرّر الانتحار، مردِّداً لنفسه: وجودي وعدم وجودي ما عاد يؤثّر في المحيط». ويتابع: «أحياناً، قد يواجه المرء صدمةً يعجَز عن مواجهتها، صدمةً عاطفية، إنفصالاً أو خسارةَ أحد المقرّبين منه».

إنتحار «فاشل»
ويتوقّف د. محسن عند الأسباب العاطفية التي قد تؤدّي إلى الانتحار، فيقول: «مقولة ومِن الحبّ ما قتَل نادراً ما تقود إلى الانتحار، بل تقتصر على التهديد والوعيد بالتنفيذ في حال ابتعاد الشريك، من دون امتلاك الجرأة على تنفيذ التهديد». ويضيف: «غالباً ما تكون المسألة بتلويح العاشق بوضعِ حدٍّ لحياته لإرسال رسالة مباشرة للحبيب، فيكون الانتحار فاشلاً»، ويذهب أبعد من ذلك قائلاً: «وإنْ حصَل الانتحار فيكون في معظم المرّات عن غير قصد، أو أنّ صاحبَه لم يكن يعرف أنّ الامور قد تصِل إلى هذه المرحلة، ظنّاً منه أنّ رصاصةً في البطن لا تَقتل».

ويتوقف محسن عند أهمّية متابعة المريض لأدوية الأعصاب مع طبيبه الخاص، قائلاً: «منهم مَن يشعر بالتحسّن فيمتنع عن تناوُل الدواء من تلقاء نفسه، مِن دون التنسيق مع طبيبه الخاص، فيعود ليقعَ أسيرَ اليأس والتقلّبات التي تؤدّي به إلى الانتحار». ويُشدّد على أهمّية دور المحيط الاجتماعي، «تؤدّي العائلة والأقارب دوراً أساسياً في احتضان الفرد وتوجيهه ليبتعدَ عن خيار الانتحار». ويلفت محسن إلى أهمّية تلقّفِ إشارات المقبل على الانتحار، «تبدو عليه بعض العلامات الغريبة، كأن يتمنّى الموت لوهلة، أو يَعمد إلى توزيع أغراضه الخاصة على محبّيه أو ربّما التخلّص منها»، لذا فهو ينصَح الأهلَ والمحيط بتلقّف تلك الإشارات وعرضِ صاحبها على المعالج الخاص قبل فوات الأوان. ويوصي محسن: «مِن غير المنطق أن يَسمع الأهل ابنهم يهدّد بالانتحار، ولا يؤخَذ كلامه على محمل الجد، مع الإشارة إلى أنّ بعض الاولاد يهدّدون بالانتحار للَفتِ النظر أو لنقصٍ عاطفي». ويلفت محسن إلى دقّة عامل الوراثة في الانتحار، ملاحظاً «أنّ الظاهرة نفسَها قد تتكرّر بين أجيال العائلة الواحدة ولو أنّ أفرادها لم يتسنَّ لهم التعرّف إلى المنتحر».

في وقت تُحاسب بعض البلدان المتقدمة مواطنيها إذا حاولوا الانتحار، على إعتبار أنها راهنت عليهم لغد أفضل، وأمّنت لهم كل ما يلزم لحياة هانئة، لكنّهم شكلوا لها إستثماراً خاسراً… يُردّد المراقبون :«أجادو اللبناني كيف بعدو صامد وعايش»، في ظل التحديات وإشتداد الحبل حول عنقه يوماً بعد يوم… ولكن أياً تكن الظروف قاهرة، يبقى حبّ الحياة أقوى لديه.