Beirut weather 16.85 ° C
تاريخ النشر October 25, 2025
A A A
إلى المراهنين على افتراق أميركي إسرائيلي
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”

– تسود مؤخراً في أوساط كثيرة نظريات تجميلية للموقف الأميركي تستند إلى مواقف إعلامية صدرت عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، توحي من جهة بنظرة أميركية مغايرة للنظرة الإسرائيلية لملفات حساسة في المنطقة، وتتضمّن نبرة أميركية عالية في دعوة قيادة الكيان، خصوصاً رئيس حكومته بنيامين نتنياهو والوزراء الأشد تطرفاً في حكومته إلى الانصياع، مثل الحديث عن أن الحرب انتهت ولن تعود، ومؤخراً الحديث حول ضم الضفة الغربية للكيان. ويذهب أصحاب هذه النظريات إلى الترويج لمشروع أميركي يعتمد على الحلفاء الإقليميين مثل السعودية ومصر وتركيا على حساب كيان الاحتلال، وصولاً إلى فرضية تبنّي أميركا مشروع قيام دولة فلسطينية والسير خطوات عملية نحو قيامها، فهل هذه الفرضيات واقعية؟

 

– مشكلة أصحاب هذه النظريات أنهم لا ينتبهون إلى أن ما يجري بعد وقف حرب الإبادة في غزة، لا يمكن أن ينسف ما كان قبلها وعبّر عنه ترامب في خطابه أمام الكنيست، عن الشراكة الكاملة في حرب الإبادة بين واشنطن وتل أبيب، وأن قرار وقف الحرب لم يكن تعبيراً عن تحوّل سياسيّ نحو الاعتراف بالحق الفلسطيني، خصوصاً حق تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية، وتكفي العودة إلى خطة ترامب لوقف الحرب ورؤية ما هو أعمق من الابتعاد عن ذكر الدولة الفلسطينية كتتويج طبيعي لوقف الحرب، وهو ما قد يكون مفهوماً في إطار السعي لإنجاح وقف الحرب وعدم التسبّب بصدمة كبيرة لقيادة كيان الاحتلال في الحكومة والمعارضة، حيث الإجماع على رفض أي وجود لكيان فلسطيني، لكن ماذا عن جعل غزة مجرد جغرافيا وديموغرافيا بلا هوية، أرض وسكان تحت الوصاية الدولية بمجلس انتداب يترأسه ترامب وقوة دولية تشرف على نزع سلاح المقاومة؟

 

– يتجاهل أصحاب هذه النظريات حقيقة أن أميركا ترامب ومن قبله أميركا جو بايدن وباراك أوباما، تعمل على مراعاة الحفاظ على ولاء حلفائها في المنطقة مثل السعودية ومصر وتركيا، وسعي إلى عدم المبالغة بإحراجهم، لكن هل يصدق أحد أن غارة الاحتلال على قطر تمت دون معرفة واشنطن، وقاعدة العيديد في قطر هي مقر القيادة الأميركية المركزية، وهل يمكن تجاهل تباهي ترامب بأن الحلفاء الذين وقعوا اتفاقيات التطبيع لم يتخذوا أي إجراء سلبي تجاه التزاماتهم بها رغم كل ما شهدته الحرب، وأنه جعل تعميم هذه الاتفاقيات هدف قمة شرم الشيخ التي افتتح عبرها اتفاق غزة الذي يرعاه، والسبب معلوم وهو أن أميركا لم ولن تساوم على مكانة كيان الاحتلال وقوته وتفوقه وهيمنته في منطقة لا تثق أن أنظمتها محصنة ضد التغييرات التي أطاحت بأنظمة عديدة مثلها، من انقلابات الخمسينيات الى يوم سقوط نظام الشاه إلى إرهاصات الربيع العربي التي ركبت أميركا موجتها وقامت بتحويلها الى فوضى خشية تكرار مشهد الخمسينيّات، بينما الكيان حليف ثابت تابع ومطيع مهما بدا عليه من نزوع نحو الاستقلال أو الخصوصية.

 

– حيث يخوض الكيان معارك تحسين شروط الهيمنة مثل لبنان وسورية تقوم أميركا بقيادة الضغوط على نظامين حليفين لها، يحظيان برعاية حلفائها الكبار في المنطقة، خصوصاً بالنسبة لسورية وحجم الاهتمام التركي والخليجي بتجنيب الحكم الجديد فيها إحراج الطلبات الإسرائيلية غير القابلة للاحتمال، وما تفعله أميركا هو الضغط على سورية وتركيا ودول الخليج لتسهيل فرض الشروط الإسرائيلية، أما في لبنان فيكفي أن نسمع كلام المبعوث الرئاسي الأميركي توماس برّاك الداعية للاستسلام للكيان تحت طائلة شن الكيان الحرب عليه بمباركة أميركية.

 

– السؤال عن تفسير الموقف الأميركي والنبرة العالية بوجه قادة الكيان بعد وقف حرب الإبادة على غزة سؤال مشروع، لكن الجواب عليه بعيد جداً عن نظريات التفارق الأميركي الإسرائيلي، أو الانقلاب الأميركي في الموقف من القضية الفلسطينية والتحالف مع كيان الاحتلال والحرص على مكانته وتفوّقه والتمسك باعتباره الحليف الأول في المنطقة، والقضية هي أن الحرب التي خاضتها أميركا جنباً إلى جنب مع كيان الاحتلال، بل خاضتها أميركا ووظفت الكيان لحسابها وحساب مصالحه المباشرة في خوضها، قد فشلت في كل الجبهات في تحقيق الأهداف، فلم يسقط النظام في إيران، وسقوط النظام في سورية لم ينتج وضعاً مستقراً يجمع حلفاء أميركا وكيان الاحتلال على رؤية موحّدة، وفي جبهة اليمن فشل ذريع، وفي جبهتي لبنان وغزة نجاح في إلحاق خسائر هائلة بقوى المقاومة، لكن عجز عن امتلاك خريطة طريق تؤدي إلى إنهائها، بل إن تنشيط آليات إضعاف المقاومة تمرّ بالضغط على الكيان للانسحاب من الأراضي التي يحتلها ووقف اعتداءاته وفتح طريق حلول لا يتحمل الكيان تبعاتها، وبالتوازي صارت نتائج هذه الحرب بما شهدته من توحش وجرائم فوق قدرة أميركا على التحمل وقد وصلت النار إلى ثوب الرئيس ترامب الانتخابي عشية عام انتخابات للكونغرس تهدّد بفقدانه الأغلبية في المجلسين، وقادة الكيان يعلمون معنى الخسارة الناجمة عن وقوع هذه الكارثة فوق رؤوسهم، لذلك كانوا وفي طليعتهم نتنياهو في طليعة الشركاء في قرار وقف الحرب، ومقابل هذه الصورة صورة أخرى تقوم على تفاوت القدرة على التأقلم مع قرار وقف الحرب بين البيئتين السياديتين الأميركية والإسرائيلية، حيث كل كلمة ينطق بها ترامب ضد الحرب تحقق له أرباحاً في الرأي العام والناخبين، مقابل سنة انتخابية مماثلة في الكيان يدفع فيها نتنياهو ثمن كل كلمة تدعو للاعتدال وهو يخاطب جمهور اليمين المتطرف الذي يشكل قاعدته الناخبة.

 

– إلى جانب التفاوت في قدرة الانتقال من خطاب الحرب إلى عكسه تماماً، هناك حاجات يمليها ضمان نجاح وقف الحرب بشروط مريحة للكيان، وفي مقدمتها النجاح بتجنيد حكومات عربية وإسلامية في محاصرة المقاومة، عبر مساهماتهم المالية والأمنية، وهذا يستدعي خطاباً يتيح لهم الانخراط دون الشعور بالإحراج أمام شارع شاهد فظاعة الارتكابات والجرائم بحق الأطفال والنساء في غزة، وانتقاد الكيان وحكومته وقيادته جزء من هذا الخطاب الذي يريد ترامب ونتنياهو أن يصدقه العرب، شارعاً ونخبة وحكومات، فهل نصدّق؟