Beirut weather 14.41 ° C
تاريخ النشر December 30, 2024
A A A
إصلاح مالي: بين مسار النهوض والمعوقات السياسية
الكاتب: باسم جوني - الجمهورية

تُجسِّد الأزمة المالية في لبنان عجز السلطة السياسية عن تقديم حلول مستدامة وفعّالة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة. وعلى رغم من إقرار الحكومة اللبنانية للموازنة العامة عام 2024 بعجز صفري، فإنّ هذه الخطوة تبدو وهمية ومضلّلة، إذ أُغفِلت بعض النفقات الأساسية التي تظهر على الورق وكأنّها غير موجودة.

في الواقع، تكشف الأزمة عن خلل هيكلي عميق في النظام المالي، يزداد تعقيداً بسبب المحاصصات الطائفية التي تعطي الأولوية للمصالح الفئوية على حساب المصلحة الوطنية العامة. يعاني النظام اللبناني من ترسّخ هذه السياسات، ممّا يؤدّي إلى توزيع غير عادل للموارد ويعمّق الفجوات الاقتصادية بين الفئات المختلفة من المجتمع. ومع تغييب التوافق على حلول شاملة بعيداً من الانتماءات الطائفية، يُصبح من المستحيل تحقيق إصلاحات مالية حقيقية تساهم في إنقاذ الاقتصاد الوطني.

 

إنّ تفاقم أزمة المالية العامة والديون وفقدان الثقة في المؤسسات الحكومية يعكسان حالةً من الانسداد السياسي التي تعوق أي محاولة للتغيير الجذري في النظام المالي للبلاد، مع خيارات محدودة لمواجهة تحدّيات عميقة، بين استعادة الرضا الدولي وبين الإصلاحات التي يجب أن تسبقها.

هذه الإصلاحات مرتبطة بشكل أو بآخر بتوافق بين الأطراف السياسية، مما يعقّد الوضع بشكل كبير.

يرى المحامي والأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، كريم ضاهر، في حديث لـ«الجمهورية»، أنّ «الأزمات المتتالية ولّدت نوعاً من اللاعدالة واللامساواة، ما أدّى إلى نشوء نظرة سلبية من الشعب تجاه الدولة اللبنانية، ممّا سمح للأحزاب الطائفية بالهيمنة، مستفيدة من انقسام اللبنانيّين العمودي الطائفي والطبقي الأفقي. كما ساهم الخطاب المتطرّف في خطف السلطة والقرار السياسي من قبل القلّة الحاكمة، التي تُعيد إنتاج نفسها، رافضة أي تغيير نظامي وعصية على أي إصلاح فعلي، ممّا يحرمها من أدوات السيطرة والمحاسبة والتفلّت من العقاب. وهذا الوضع يجعل البلاد تدور في حلقة مفرغة لا نهاية لها».

ويضيف ضاهر، أنّ الحكومة أصبحت صورة مصغّرة عن مجلس النواب الذي تمثله، بسبب ما يسمّى بالديموقراطية، بالتالي يصعب على المجلس محاسبة نفسه. وقد تجلّى ذلك في فقدان الحكومة للوسائل الدستورية التي تسمح لها نظرياً بتنفيذ برنامجها وتطبيق الإصلاحات من دون الحاجة إلى عقد تسويات سياسية مع مختلف الأحزاب والزعامات الممثلة في مجلس النواب.

وعند سؤاله عن أي خطوة قد تكون بادرة أمل لاستعادة الثقة في الدولة اللبنانية عبر حل أزمة المودعين، أكّد ضاهر أنّه لا يمكن إحياء الاقتصاد ولا استعادة الثقة بالمستثمرين قبل إيجاد حل لموضوع الودائع العالقة في المصارف، وإنصاف المودعين بشكل عادل بالتزامن مع عملية إعادة هيكلة للقطاعين المصرفي والمالي.

وعليه، يتطلّب الأمر تدخّل وتعاون كافة السلطات للحفاظ على المصلحة العامة، وتفادي الانهيار الكامل للنظامَين المالي والمصرفي، مع معالجة إشكاليات تمويل الاقتصاد وتنشيطه عبر تنوع العملات المصرفية، مع ضرورة الالتزام بالتسديدات وما تحتاجه من قدرة غير متوفّرة حالياً، في ظل غياب مسار تصحيحي متكامل وضمن خطة واضحة المعالم.

ويجب أن يسبق ذلك تصنيف الودائع إلى مشروعة تقتضي حمايتها وغير مشروعة تقتضي شطبها أو استردادها وفقاً للقوانين المصرفية والتجارية. كما يجب شطب جميع الأموال النقدية المودعة في المصارف الساقطة بمرور الزمن، عملاً بأحكام المادتَين 90 و91 من قانون ضريبة الدخل، بهدف تخفيض حجم الكتلة النقدية الواجب إعادتها، بحسب ضاهر.

كما أكّد ضاهر أنّ الأمور لن تستقيم مع استمرار حالة الإنكار الجماعي ورفض تحمّل المسؤولية من قبل فرقاء النزاع الأساسيّين، الذين يُقدّر عددهم بـ 4. بحسب ضاهر، فإنّ أولهم هي الدولة، التي في الحقيقة تتمثّل بمَن أدارها وأفلسها على مدار 3 عقود من الزمن، واستفادت منها حلقة ضيّقة من الأعوان والمتواطئين، على أن تكون محاسبتهم من خلال تطبيق القوانين والأنظمة، أبرزها قانون مكافحة الفساد رقم 175/2021، قانون الإثراء غير المشروع رقم 189/2021، وقانون استرداد الأموال الناتجة من أعمال الفساد وتبييض الأموال رقم 214/2022.

أمّا ثانيهم فهو مصرف لبنان، الذي يتوجّب عليه إجراء مسح شامل وتحقيق معمّق في كل المخالفات التي ارتكبها حاكمه السابق، رياض سلامة. بالإضافة إلى المصرفيّين من رئيس وأعضاء مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيّين، مع مفوّضي المراقبة وسائر الأشخاص الذين لهم حق التوقيع، ويتحمّلون وفقاً للقانون المسؤولية الجزائية والمدنية على ذمّتهم الخاصة.

وذكر ضاهر أنّه من الضروري تحديد المسؤوليات وكشف الجرائم المالية وغير المالية من خلال القوانين النافذة، وأهمها القانون رقم 2 /67، القانون رقم 110/1991، وقانون التجارة. وهذا قد يساعد على التحقيق في العمليات المشبوهة، وكذلك التحقيق في التحويلات المصرفية التي تمّت بعد 17 تشرين 2019، بالإضافة إلى تسديد ديون القطاع الخاص والاستفادة من سعر العملات.

وأضاف ضاهر أنّه لا بُدّ من تحديد الحسابات التي استفادت من الفوائد والأرباح والمكافآت المضخمة منذ وقوع الحساب التجاري في العجز، وذلك لإجراء التخفيض والشطب والاسترداد لكل ما هو غير مشروع قبل أي عملية استرداد للودائع. كما يقتضي الأمر إشراك الضرائب التخصّصية، واستهداف فئات أخرى استفادت من انهيار المجتمع، والذين استفادوا من انهيار العملة الوطنية واعتماد أسعار صرف عدة للدولار، والذين تمكنوا من إخراج ودائعهم المحجوزة بعد 17 تشرين 2019 وإيداعها في الخارج لتحقيق مكاسب وأرباح خيالية، فيتعيّن فرض ضرائب أعلى عليها لتحقيق بعض العدالة.

وختم، أنّ النهوض بالاقتصاد اللبناني، يحتاج إعادة بناء النموذج الاقتصادي وإعادة هيكلة المالية العامة لتعزيز الثقة بالدولة واقتصادها. مع تحقيق نمو مستدام يؤمّن إيرادات تقلّص العجز وترشده، بالتوازي مع سياسات اقتصادية تدعم القطاعات الإنتاجية وتخلق فرصاً للعمل والتأسيس لنمو اقتصادي مستدام. عوضاً عن التركيز على اقتصاد المعرفة الذي يوظف التكنولوجيا المتقدّمة ويعزّز الإنتاجية.