كتب ناصر قنديل في “البناء”
منذ اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024 تتردّد على مسامعنا سرديّة قوامها سقوط تجربة الردع التي قدمتها المقاومة، والاستعجال للبناء على هذه السردية دعوة ملحّة لإنهاء سلاح المقاومة، والتغني بفاعلية الحل الدبلوماسي القائم على الرهان على دور أميركي في ضبط العدوان وإنهاء الاحتلال، ومع الغارات الجديدة التي استهدفت الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، لا يخرج دعاة هذه السردية والمستعجلين على إنهاء أمر سلاح المقاومة ليقولوا شيئاً عن سيادة البلد التي تنتهك وعن إسقاط الاتفاق وخرق القرار 1701 والتلكؤ الأميركي في لعب دور الضامن، بل يسارعون إلى نقل الرسالة التي يريد إيصالها الاحتلال وجوهرها أن المقاومة هي ما يقلق الاحتلال وأن سلاحها هو الهدف، لكنهم لا يخبرون أحداً عن جوابهم على سؤال ماذا لو واصل الاحتلال عدوانه بعد نزع سلاح المقاومة، فهل تملكون في جعبة أفضلكم غير الاعتذار عن تقدير خاطئ، بينما ينصرف أغلبكم إلى الفقرة الثانية من برنامج الاحتلال، بالقول لا حل إلا باتفاق سلام والتطبيع مع الاحتلال، والقبول بترتيبات أمنية تقتطع بعض الأرض وبعض السيادة لصالح الاحتلال.
لو سلّمنا بأن الردع قد فشل في هذه الحرب في تحقيق وعوده، وهذا صحيح في جزء منه، وهو غير صحيح في الكثير من وجوهه، لأن الردع البري قد تحقق بأفضل ما يمكن له أن يتحقق، ولأن نوعاً من التوازن الناري النوعي قد فرض مجيء الاحتلال إلى وقف النار، من دون أن نتوقف أمام الردع الذي حمى العاصمة والمطار والميناء وخزانات النفط بمعادلة المثل بالمثل، ودون أن نتوقف أمام خسارة الردع لجزء من فعاليته لمجرد الذهاب لفتح جبهة الإسناد. والردع له وظيفة دفاعية يسقطها الذهاب للهجوم، إلا أن الأهم يبقى أن التمادي من جانب الاحتلال بدأ مع وقف النار وتنفيذ المقاومة موجباتها فيه بنقل مسؤولية المواجهة والدفاع والتفاوض وتنفيذ الاتفاق الى الدولة اللبنانية ورعاية الرعاة، ولو وضعنا كل هذا جانباً فالسؤال يأتي من المثال السوري الحيّ أمامنا وهو بعد جولات العدوان والتمدد الإسرائيلي التي لم يشفع في تفاديها نزع السلاح والعداء للمقاومة، جاءت مرحلة التبني الأميركي للحكم الجديد في سورية من رفع العقوبات إلى التساهل مع بقاء المقاتلين الأجانب، ووقع العدوان الإسرائيلي الواسع على طرطوس وسعى الأميركي لضبط الرد الإسرائيلي على صاروخين أطلقا من الجولان يشبهان صواريخ أطلقت من جنوب لبنان قبل شهور، وها هو حيث يقف الأميركي ساعياً يواصل الاحتلال عدوانه ويفرض أجندته، ويقبلها الأميركي ويدعو الحكم في سورية إلى تفهمها والتأقلم معها، فيكف نأمل أن يحدث العكس حيث الأميركي يجاهر بتبني الأجندة الإسرائيلية، كما هو الحال عندنا؟
بالتوازي، ولو سلمنا بكامل مقولة فشل الردع، رغم قوة المثال اليمنيّ وفرض وقف النار على الأميركي وفق الأجندة اليمنية التي تحتفظ بإسنادها لغزة، فهل حال الحل الدبلوماسيّ أفضل من الردع الذي قبلنا أنه فشل، أليست الشهور السبعة التي أعقبت وقف إطلاق النار كافية للقول بأنه مُنيَ بفشل ذريع، وأن أحداً لا يستطيع قبول المنطق الذي يسعى لتعديل الأولويّات تحت شعار سحب الذرائع، فيقول بنزع السلاح على أمل أن يتوقف العدوان ويزول الاحتلال، بينما لم يحدث ذلك عندما قيل فلتسلّم المقاومة جنوب الليطاني للدولة قبل انتهاء انسحاب الاحتلال كما ينص القرار 1701، فهذا يضمن إنهاء الاحتلال ووقف العدوان، ولم يحدث ذلك رغم الضمانات، وهل تختلف الضمانات الجديدة عن الضمانات القديمة، والمنطق يقول إن كل قبول بتنازل جديد سوف يعقبه طلب تنازل جديد آخر، طالما أن ذلك نجح مرة في دفع لبنان للتنازل فسوف ينجح أكثر من مرة.
ربما ما نحتاج إليه بين الدولة والمقاومة، هو عزل الذين يرددون الخطاب الإسرائيلي عن النقاش، والتسليم المتبادل بأن الردع وحده فشل والحل الدبلوماسي وحده فشل، وأن المقاومة وحدها عجزت، والدولة وحدها عجزت، فلنناقش في غرف مغلقة كيف يمكن جمع الردع والحل الدبلوماسي وكيف يمكن توحيد قدرات وجهود الدولة والمقاومة. وهذا بالنسبة للمقاومة محسوم إيجاباً بالقبول، وهي ترتضي ما دونه اليوم وتراعي كل حسابات الدولة على حساب بنيتها وبيئتها في كل شيء، لكن السؤال موجّه للدولة والقيّمين عليها، هل بين أيديكم ما يقول بأن الاحتلال سوف يزول والعدوان سوف يتوقف، وفقاً للرؤية التي أعلنها رئيس الجمهورية وأكدت عليها الحكومة، بأنها أولوية تسبق بحث السلاح ومصير السلاح، وهو بحث مشروط باعتماد الحوار خياراً وحيداً، وإن لم يكن بين أيديكم ما يقول بأن ثمة ما سوف يحدث على المسار الدبلوماسي غير الانتظار البارد بينما ينزف دم حار كل يوم، فلم لا يبدأ الحوار حول حماية البلد تحت عنوان الدولة وإمساكها بقرار السلم والحرب كاملاً، وفي قلبه نقاش وطني أخوي حول موقع المقاومة وقدرة ردعها، في استراتيجيّة وطنيّة للدفاع؟