خلال اجتماع موسع لوزارة الدفاع الروسية بتاريخ الثامن عشر من شهر كانون الاول الحالي، القى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطابا مطولا امام قادة وضباط الصف الاول في القوات المسلحة الروسية، يمكن وصفه بالخطاب التاريخي، لما تضمنه من نقاط استراتيجية تتلخص بتعزيز القوات النووية الاستراتيجية، وبدء تشغيل المنظومات الصاروخية المتطورة، ودعم التقنيات الرقمية للجيش وتطوير التعاون مع كل الحلفاء، وذلك من ضمن تَعَهُّد رسمي روسي بالرد في حال انسحاب واشنطن من معاهدة الصواريخ …
فما هي حيثيات القرار الاميركي المحتمل بالانسحاب من معاهدة خفض الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، والذي ادى بالروس الى التحضير لاتخاذ هذه الاجراءآت الاستثنائية ؟ وماذا يعني ذلك من الناحية العسكرية والاستراتيجية، وهل يمكن إعتبار ذلك بمثابة عودة الى سباق التسلح بين الجبارين ؟
تعود معاهدة خفض الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى لعام 1987 حيث وقِّعَها الاميركون والسوفيات آنذاك، على خلفية ارتفاع مستوى التوتر بين الفريقين وحلفائهما خلال الحرب الباردة، والتي نتجت عن سباق تسلح غير طبيعي، امتلك من خلاله الكثير من اللاعبين الدوليين وعلى رأسهم القطبين الكبيرين، ترسانة ضخمة من الصواريخ الباليستية، التكتية والاستراتيجية، والقادرة على حمل القنابل النووية واسلحة الدمار الشامل، وقد نصت المعاهدة على منع ووقف تصنيع وتطوير جميع الصواريخ التي يتراوح مداها بين 500 كلم ادنى و5500 كلم حد اقصى ، وقد تحددت هذه المسافات استنادا لفكرة إبعاد الخطر والدمار عن اوروبا بشكل عام، والتي كانت مسرحا للمواجهة الباردة وللاشتباك الاستراتيجي الخطر بين تلك الاقطاب.
مع الوقت، وبعد ان سلكت تلك المعاهدة نحو التطبيق، والتزمت بها الاطراف الموقعة عليها، حافظت تلك الدول على نمطٍ آخر من التسلح، يتضمن تصنيع وتطوير وامتلاك القدرات الاستراتيجية والنووية البعيدة المدى والعابرة للقارات، وقد نشأ عن هذا السباق ايضا توترا حساساً، على خلفية الخطر القاتل والمدمر بشكل اكيد للجميع بسبب تلك القدرات، وايضا مرة اخرى لجأ المتنافسون الى النقاش حول ذلك وتوصل الروس والاميركيون عام 1991 الى توقيع معاهدة سارت 1 لخفض الرؤوس النووية، ولاحقا وقَّعوا عام 2010 معاهدة سارت الجديدة والقاضية بالزام الاطراف ” النووية ” على تخفيض متدرج للقدرات والصواريخ والرؤوس النووية ليصل خلال 10 سنوات الى 30 % حد اقصى من قدرة كل طرف عند توقيع المعاهدة.
صحيح ان الاطراف الاساسية التزمت بجميع هذه المعاهدات، تقريبا، ولكن بقيت المواجهة الباردة بين قطبي العالم تتطور وتتوتر يوما بعد يوم، على خلفية ملفات المنافسة الاستراتيجية، المتعلقة بالمنافسة وببسط النفوذ ما وراء البحار وبالسيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية، ولم يجد كل من الطرفين الاّ العودة للسباق ” الام ” والذي يتعلق بالتسلح وبامتلاك القدرات الرادعة والمؤثرة، ولكن من خلال تغيير المناورة التقليدية المعتمدة تاريخيا في سباق التسلح، وذلك عبر تجاوز مفاعيل تلك المعاهدات من دون اختراقها، فكانت مناورة الانتشار المتقارب على اراض ونقاط حساسة تؤثر على الطرف الاخر، وكانت مناورة تصنيع وتطوير قدرات ومنظومات صاروخية، تحترم في الشكل وفي الظاهر بنود المعاهدات المذكورة اعلاه، ولكن عمليا وفعليا، تتجاوز هذه القدرات بمفاعيلها العسكرية بنود تلك المعاهدات، و منها على سبيل المثال لا الحصر :