Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر June 9, 2020
A A A
أيّهما أولاً القروض أم تحرير الليرة؟
الكاتب: نقولا ناصيف - الأخبار

يواجه الحوار بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي إشكالية، تبدو حتى الآن غير قابلة للحل. كلا الطرفين ينطلق من ثابتة مرتبطة بالليرة اللبنانية لا يتزحزح عنها، ولا يتصرّف حيال الآخر بتساهل. طلب صندوق النقد تحرير سعر صرفها للفور، كي يتمكن من تقدير القروض التي يمكنه أن يقدمها للبنان من ضمن تصوّره للاصلاحات. في المقابل اجاب الوفد اللبناني المفاوض بمعادلة معاكسة، مفادها ان القروض التي يمكن ان يقدمها صندوق النقد تتيح للدولة اللبنانية تقدير موعد تحرير سعر صرف الليرة. الفريق الاول يربط القروض بتحرير سعر الصرف اولاً وللفور، بينما الثاني يضعه في مرحلة لاحقة للقروض التي يدرجها في رأس اولوياته.
اضافت وجهة نظر الوفد المفاوض اللبناني بلسان وزير المال غازي وزني، ان حصول لبنان على 10 مليارات دولار مقسّطة على ثلاث سنوات يجعل تحرير سعر صرف الليرة متاحاً عام 2021، لكن على مراحل، بحيث يصير الى تطبيقه بمرونة وتدرّج.
لا تزال الاشكالية هذه شائكة وقائمة، وإن لا تبدو وحدها عثرة في طريق تقدم المفاوضات بين الطرفين. الى تحرير سعر صرف الليرة، يطلب الصندوق شرطين مهمين آخرين، هما معالجة المالية العامة للدولة عبر عجزي الخزينة وميزان المدفوعات، ومباشرة اصلاحات بنيوية اساسية اولها الكهرباء والجمارك والتهرب الضريبي، ولا تنتهي برفع الدعم عن الخدمات الاساسية وفرض ضرائب صارمة.
على نحو كهذا يتواصل التفاوض بتقطع. تقني بحت يكتفي بلغة الارقام، في وقت تجري فيه مناقشات مسهبة في اوساط مسؤولين كبار عن الحاجة الى مواكبة التفاوض التقني بمظلة سياسية، لا تزال متعثرة الى الآن. بمقدار ما تكمن مشكلة الانهيارين النقدي والاقتصادي في ارقامهما، تقيم المشكلة السياسية في صلبهما، كون المرجعية الفعلية لهذين الانهيارين تتركز على التوالي على الطبقة الحاكمة ومصرف لبنان. ما يشترطه الصندوق من اصلاحات لتقديم القروض يُصوَّر لدى المتحمسين لدوره على أنه اشبه بمَن يمدّ يده الى ما اضحى قطاعات موزّعة على الطبقة الحاكمة: الكهرباء والاتصالات والمرافق والمعابر الحدودية. لذا سهل على اكثر من فريق تفسير مهمة الصندوق على انها تستهدفه هو بالذات لانتزاع هذا الامتياز، ما يفضي الى تعذر الخوض في سبل توفير المظلة السياسية للتفاوض التقني.
ما بات معلوماً ان المهمة المنوطة بحكومة الرئيس حسان دياب، بازاء التفاوض مع صندوق النقد، الاكتفاء بالدور التقني، فيما يُعزى القرار السياسي الى الكتل التي اتت بها. المشكلة نفسها يطرحها التعامل مع خطة ماكينزي. رغم ان حكومة الرئيس سعد الحريري ومن بعدها حكومة دياب تبنتاها، لما تزل حبراً على ورق، ولم يصر الى وضع آلية تطبيقية لها، على اهمية اقتراحاتها لولوج الاقتصاد المنتج، الملازم للاصلاحات البنيوية.

لم يكن الموقف المترجرج من سعر صرف الليرة الا احد اعراض الازمة المستعصية. في المسودة التي سُرّبت الى وسائل الاعلام قبل اسابيع، ودحضت حكومة دياب صحتها، ورد تحرير سعر صرف الليرة فوراً وفي هذه السنة بالذات، وهو الشرط الرئيسي لصندوق النقد الذي اقترن آنذاك بلفت المسؤولين اللبنانيين الى نجاح التجربة المصرية وضرورة الاقتداء بها. استجابت حكومة دياب لهذا الشرط ثم تخلت عنه، بعدما اعترض عليه الرئيس نبيه برّي، وخصوصاً استعجال اجرائه وتداعياته على الحياة اليومية للبنانيين في المرحلة الحالية. اخرجه وزير المال من الخطة الاصلاحية، فشُطب كي يصبح الموقف الرسمي للمفاوض اللبناني من تحرير سعر صرف الليرة رهن شرطين متلازمين: تحرير مرن متدرج على امتداد اشهر، والحصول سلفاً على قرض اول من صندوق النقد.
في تقدير المنادين، من بين المسؤولين الكبار، بمظلة سياسية موازية للتفاوض مع صندوق النقد الدولي اسباب شتى:
1 – رغم الحاجة الى صندوق النقد واستمرار التفاوض معه، وهو في الاصل معتاد التفاوض الطويل المدى وإن بنتائج قليلة الاهمية، الا ان ثمة مَن بات يعتقد في الحكم انه لم يعد ممراً الزامياً، وإن بدا بالفعل انه حاجة المرحلة الحاضرة. ما يشترطه لتقديم قروض مالية اكبر من مقدرة اللبنانيين على احتماله، من غير ان تمتلك الحكومة اللبنانية خطة اصلاحية تحظى بأفضل – وليس اوسع – تأييد لها. في الفترة الاخيرة بدأت تعلو من داخل الحكم اصوات تتحدّث عن مزيد من الثغر فيها، الى حد ان الجولات الاخيرة للتفاوض مع الصندوق راحت تتجاوز الخطة، الى طرح اسس جديدة كما لو ان ثمّة تنصلاً متدرجاً منها. بات وزير المال، ممهِّداً لكل جولة تفاوض، يعقد اجتماعات مع الفريق المفاوض اللبناني لتوزيع الادوار في الافكار الجديدة الجاري طرحها.
2 – لا يكتم المنادون بالمظلة السياسية الموازية للتفاوض، يقينهم بأن لصندوق النقد اجندة سياسية لا يسعه التبرؤ منها، وإن بدا التفاوض قائماً على مناقشات تقنية بين موظفين يمثلونه وبين فريق الدولة اللبنانية. مع ان الحصة الاميركية في تمويل صندوق النقد لا تزيد عن 17% من موازنته – وهي الاعلى – لكنها كرقم في ذاته ليست حاسمة ومقررة، بيد ان احداً لا يتوهم انها لا تمثل الثقل الفعلي للاميركيين في الصندوق. نفوذ واشنطن فيه اقوى من حصتها، وكذلك تأثيرها في شركائها الآخرين فيه، كاليابان واوروبا والخليج العربي، يغلّب الحسابات السياسية على لغة الارقام.
لذا يبرر اصحاب هذا الرأي وجهة نظرهم بسلسلة وقائع ظهرت الى السطح في الاسابيع الاخيرة، مع انطلاق جولات التفاوض، لن يكون آخرها ما يثار عن تداعيات «قانون قيصر» على لبنان ومصير القوة الدولية في الجنوب واحياء الحديث عن القرار 1559، وايصاد الابواب دون وصول العملات الصعبة الى لبنان، فضلاً عن رزمة المطالب التي يصرّ عليها الصندوق.
3 – في اعتقاد المنادين بالمظلة السياسية للتفاوض، ان التجربة التي تقدم عليها الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي يمكن استنساخها لبنانياً، بفتح حوار سياسي – يصبح مظلة – مع قوى التجاذب الاقليمي المحيطة بلبنان، وخصوصاً الاميركيين والايرانيين والروس. على نحو ما فعله الكاظمي بمحاولة تحييد بلاده، الواقعة عند تقاطع نزاع الاميركيين والايرانيين، في وسع لبنان الحصول على فترة سماح له تخرجه من الاشتباك الدائر بين هؤلاء، وتجنّبه انفجاراً اقتصادياً واجتماعياً يستدرج انفجاراً امنياً، لم يكن بعض ما حدث السبت بعيداً من مؤشراته، وخصوصاً المذهبية والطائفية.