Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر February 19, 2021
A A A
أين العرب من العروبة؟
الكاتب: الدكتورة وديعة الأميوني

 

تطرح العروبة مبادءها من خلال التأكيد على وحدة الأصل الانساني العربي بعيداً عن عناصر
التمييز بين المجموعات الاثنية والقبلية والعشائرية السائدة، وتهدف الى اسقاط كل مفهوم يرزخ تحت تأثير الذهنيات الطائفية والمذهبية والدينية والعنصرية وغيرها.
ترتكز معادلة العروبة على اساس الانتماء الى أمّة واحدة، والى مضمون حضاري/تاريخي وثقافي واحد يتجذّر في الأصول العربية العائدة الى مهد الحضارة منذ ما قبل ما سمّي ب “العصر الجاهلي”.
لا تستلزم اللغة العربية بالضرورة تبنّي العرب للمفهوم العروبي (أن يتكلم الفرد اللغة العربية أو أن يكون عربياً لا يعني بالضرورة ان يكون عروبياً)، فالعروبي هو من تتوافر لديه شروط لغة الثقافة العربية ومضمونها الحضاري والتاريخي وتسليمه بالانتماء الى أمّة عربية واحدة متضامنة وذات أهداف موحّدة، وليس الى قومية عربية ذات خصائص تفرّقها عن قوميّات اخرى. وهنا تجدر المفارقة بين مفهومَيْ العروبة والقومية العربية وأهدافها السياسية التي تقيّدها. بحيث لا يتناقض الانتماء “العروبي” ابداً مع خصوصية كل مجتمع عربي على حدى. بل تعترف به كجزء من الاطار الكلي الذي ينتمي اليه كعلاقة الجزء مع الكل؛ مثلما تتكامل الاشكال المتنوعة في اللوحة لتعطي الصورة الكلية. هي جزء في كيانها لكنها تابعة ومتكاملة في مجموعها الكلي. لذلك، فان اندماج خصوصيات البلدان العربية تؤلّف الأمة العربيّة التي تغلّف الاطار العام لمضمون الانتماء العروبي الشامل، بعيداً عن أيّة تمايزات عنصريّةأو أثنية أو دينيّة.
وعليه، تَبين الفروق واضحة بين العروبة والمفهوم القومي حيث تتأرجح وتيرة الشعور بالانتماء العربي ووسائل التعبيرعنه. فالقومية تفرض نفسها سياسيّة وحزبيّة وتوسّعية، بينما تقدّم العروبة نفسها شموليّة وبعيدة عن أيّة مصالح، بل انّها تضمّ المفهوم القومي في طيّاتها واطارها الثقافي والحضاري.
تبقى الدعوة الى العروبة “فكروية” بحتة، وتفرض التسليم بالانتماء الى الأمّة دون الاختلاف والتباين السياسي في وحدة المصير للمجتمعات العربية، حيث لا تكون وحدة الاشكال والمعاييربين البلدان هنا مقياساً لوجود العروبة التي تقتضي حتماً التعبير السياسي عن وجودها بشكل وحدويّ. فهي اضافة حضارية لتشتمل على كل من يندمج في الثقافة العربية ومقاييسها التاريخية، وهي هوية انتماء ثقافي خارج دائرة العناصر التقليدية السائدة في المجتمعات العربية مثل القبلية/العشائرية والعنصرية والعرقية والعائلية والطائفية والمذهبية والأصولية وغيرها، التي بانت واضحة بأشكالها خلال المظاهرات والثورات الاخيرة في بعض البلدان العربية.
لم تتجسّد العروبة سياسياً في اطار موحّد على اساس مرجعيتها كإنتماء. اما الوصول الى مشروع عربي واحد او اتحادي (ولا نتحدث هنا عن إتحاد شرق أوسطي تحاول أن تترأّسه تركيا)، فيستوجب أساليباً قائمة على أسس الإنفتاح والرفض التام لتبيان الألوان الدينية خصوصاً، وإقامة حوار في اطار التعايش مع الآخر المختلف وتحقيق “الديمقراطية” النابعة من الداخل، بعيداً عن الديمقراطية المقنّعة والمنبثقة من ايديولوجيات سلطويّة وديكتاتوريّة متستّرة وراء المتغيّر الطائفي.
من هنا، نجد حاجةً وضرورةً في التوصّل الى تعبير دستوري موحّد حول السياسة العربية، ثمّ الدعوة السلمية في سبيل تحقيق الأهداف ورفض السيطرة والهيمنة السائدة داخلياً أو المفروضة من الخارج، وتعزيز نظاميّة الحكم الديمقراطي لأجل مباشرة عملية الاعتراف بالآخر رغم اختلافه أو تنوّعه. فهل يحق لنا أن نحلم مثلاً ببلدان عربية ديمقراطية ذات اهداف ومصالح وطنية واحدة ومشتركة؟ الا يمكن ان تتكامل الوطنيات العربية لتحقيق تلك الدول المتماسكة؟ الا يمكن ان تفرض تلك الدول تحدياً سياسياً يلغي كل الصراعات القائمة؟ الا يمكن بالتالي تشكيل قوّةً معادية للتدخّل خارجي في السياسات العربية وتقرير مصير شعوبها؟
كان بالإمكان أن نحلم بتحقيق ذلك لو لم نشهد خيانات العرب الكبيرة وتشرذم مواقفهم وبطشهم، (الا في ما يطال التحالف مع الخارج)، الذي ادى في الزمن الأخير الى التخلي عن تراثنا العربي والتحالف مع ثقافات مغايرة تسقط ماضيها و”اساطيرها” في حاضرها المتعثّر، وبالتالي الى احداث ثورات “فوضويّة” تغيب عنها الاهداف الموضوعية في تغيير الخارطة السياسية و”الجيوسياسة العربية”.
ان مشكلة التكامل والتحالف بين بلدان المجتمع العربي تكمن اساساً في عدم الترابط بين النظام والمنهج العروبي الصحيح (الذي يوازي معطيات المفهوم الديمقراطي العربي)، هذا التفكك الذي ساهم بصورة مباشرة في اعتراف وتبنّي بعض المجتمعات العربية لأهداف وشرعية السيطرة الغربية منذ عقود التي تتستر وراء الدعوة الى تحقيق العدالة والحرية التي تفتقد لها مجمل البلاد العربية، في ظلّ استباحة الحقوق الانسانية للفرد والجماعات، الامر الذي أسس لأرضيّة صراعات وتجاذبات تميل في دفّتها نحو التحرّر حيناً، والحركات الأصولية حيناً آخر، وهي التي ظهرت كردّة فعل على مظاهر التفكك السياسي وغياب الوعي العروبي الذي سمح بتدخل المجتمعات الخارجية وتقديم نفسها وصيّاً وحكماً ومرشداً للحكام العرب، وهي التي تختلف تمام الاختلاف عن مفاهيم ثقافة شعوبنا الاجتماعية والسياسية العربية؛ هذه المسألة التي سوف تقلب المقاييس رأساً على عقب، حيث نجد في الاختلاف الثقافي/العقائدي استعماراً قصير المدى، بل مُخططاً فاشلاً للسيطرة الخارجية على المنطقة العربية لجهة الاختلاف والرفض العربي/الشعبي المتأصّل في الجذور الثقافية التاريخية والسياسية (الايستو-بوليتيك) من ناحية، والبُعد في الجغرافيا لبعض البلدان الغربية من ناحية أخرى، تماشياً مع أصول النظرية الجيوسياسية في هذا المجال.
تبقى المشكلة اساساً في البنى السياسية التي تشكّل الهيكلية الاساسية المتزعزعة عند العرب، والتي سمحت ومهّدت لكلّ خروقات وثورات عشوائية وميليشياوية وتدخّلات خارجية. وقد يكون الإجماع الشعبي المتمحور حول مفهوم العروبة والدعوة السلمية الى الوحدة، هو احدى الطرق المؤدية الى بناء دولة الوحدة العربية وتقليص الشرخ والانقسامات السائدة كثيراً في صفوف القادة العرب والشعب العربي. ثم التوجه الى تحقيق أشكال “السيطرة الافقية” في الحكم والممارسات، بعيداً عن أيّة تمايزات “عامودية” توسّع الهوّة بين الحاكم والمحكوم. ونعزو فشل العرب في الوصول الى مشروع كيان عربي اتحادي (واحد)، الى فرضيات تَبعد عن اسس الانفتاح والديمقراطية في الحكم والوعي الثقافي والسياسي، ثم عدم تقبّل الآخر، وبالتالي سبغ السياسة بطابع الدين والطائفة، والى فعل اسقاط الحاضر في الماضي واعادة انتاج التاريخ في الحاضر لدفعه نحو المستقبل، وفي ذلك خلاف للنظام الطبيعي القائم على التطوّر والتغيير الحتميّ وفق النظريات السوسيولوجية أو السوسيوبوليتيكية.
أخيراً، نقول ان مفهوم العروبة او الإنتماء العربي لا يمكن ان يتماهى في ذهنيّة الافراد ما لم تتحقق مفاهيم المواطنية الصحيحة والمنهج الديمقراطي في التعاطي والحكم والنظام، لكي نَبعد عن عجزنا الدائم في النهوض والتقدّم والتوحّد والتفاعل والاندماج. بل تتوافق العروبة مع شروط التشبّث بالهوية الوطنية كخطوة أوّلية وأساسية.
تتوازى العروبة والهوية الوطنية لجهة تذويب الانقسامات القائمة على اساس طائفي وديني وإثني وقبلي وعشائري وعائلي وغيره، فتصبح الوحدة الوطنية داخل كل وطن عربي أساساً للدعوة الى الوحدة العربية العامة، وحيث يكون الولاء للوطن الواحد والأمّة الواحدة، أرفع درجة من الانتماء الى المفاهيم التقليدية والمذهبية المعرقلة لكلّ مفهوم نخبوي وتطويري.

أ. د. وديعة الأميوني
أستاذة جامعيّة