Beirut weather 23.41 ° C
تاريخ النشر June 5, 2023
A A A
أين أصاب وأين أخفق المجلس الدستوري في قراره الأخير؟
الكاتب: د. أمين عاطف صليبا - النهار

 

في 30 أيار الماضي أصدر المجلس الدستوري قراره رقم 6/2023 الذي ردَّ بموجبه الطعن بقانون تمديد ولاية المجالس البلدية والهيئات الاختيارية الى أيار 2024 حداً أقصى، بالأكثرية أي بسبعة أصوات مقابل ثلاثة خالفوا القرار! هنا لا بُدَّ لنا من بعض التفصيل المختصر في ما يتعلق بصوابية القرار وأين مكامن الإخفاق. لكن أتوجه بداية الى من انتقد هذا القرار بأن المجلس الدستوري خالف اجتهاده السابق في ما يتعلق بدستورية مبدأ دورية الانتخابات، لأنها النقطة المفصلية في هذا القرار، حيث إنّ قراءة الطعون الثلاثة التي وحّدها المجلس بقرار واحد، تؤكد أن غالبية الأسانيد الدستورية التي وردت في متون تلك الطعون، إنما تدور في فلك السياسة أكثر منها في فلك الاجتهاد الدستوري، حيث لا نرى من موجب للدخول في تفاصيلها! كي نُركِّز على مبدأ دورية الانتخابات كمبدأ ذي قيمة دستورية، إذ من المجمع عليه في فقه الاجتهاد الدستوري، أنه ما من قانون يُطعن بدستوريته إلّا ويواجه القاضي الدستوري مبدأً دستورياً آخر يكون القانون قد هدف لتحقيقه حيث يقتضي المفاضلة بينهما.

إذن القانون طُعِنَ فيه لمخالفة مبدأ دورية الانتخابات، حيث طرح المجلس الدستوري مناقشة هذا الطعن، من زاويتين، الأولى دورية الانتخابات والثانية استمرارية المرفق العام، هذا المرفق المتعلق تحديداً بالهيئات الاختيارية أكثر مما هو متعلق بالبلديات، التي تحوّط القانون لاستمراريتها من خلال الإدارة غير المباشرة لمرفقها من قبل المحافظين والقائمقامين، لكن الفراغ في المرفق الاختياري كان سيحصل حُكماً لو أُبطِلَ القانون، وسيضاف الى معاناة الشعب اللبناني في كل لبنان، معاناة توقف معاملاته الضرورية في شتى المجالات، ولذلك جاءت المفاضلة بشكل واضح ودقيق بحيث فضَّلَ المجلس الدستوري مبدأ استمرارية المرفق الاختياري كمبدأ دستوري على المبدأ الآخر دورية الانتخابات، وهنا يكون المجلس الدستوري قد أصاب في قراره هذا. يضاف الى ذلك أن الاجتهاد الدستوري حول العالم مُتفِق على أن بالأمكان العدول عن قرار يتعلق بمبدأ دستوري استنبطه القاضي الدستوري في قرار سابق له، وذلك عند تحقّق أي ظروف جديدة لم تكن مُتحقِّقة في معرض اتخاذ القرار السابق، وهذا ما هو قائم في معرض القرار الحالي، لأن تمسك الجهات الطاعنة بالقرار رقم 1/1997 تاريخ 12/9/1997 الذي أبطل المجلس الدستوري يومها القانون رقم 654 لمخالفته مبدأ دورية الانتخابات! هو تمسك لا يمكن البناء عليه، لتمايز الظروف التي كانت قائمة عام 1997 حيث سعى المشرع يومها الى تمديد كامل لولاية المجالس البلدية والاختيارية. ولم يكن واقع تعطيل المرفق العام يومها قائماً. لذلك نرى صوابية هذا القرار الذي اعتمده المجلس الدستوري، حفاظاً على مصالح الناس وعدم تعطيلها، ولا سيما إذا ما تعمّقنا في مدى إمكانية قيام السلطة التنفيذية بإجراء انتخابات في مواعيدها، في ظل الشلل الإداري واللوجستي المُسيطر على الإدارة منذ أكثر من ثمانية أشهر، ولتسمح لنا السلطة السياسية التي جزمت بأن بمقدورها إجراء الانتخابات، أن تعمل الآن لا غداً لإعادة الحياة الى الإدارة والحفاظ على تقديم الخدمات للناس بعد أن تكون وفَّرت في مواقع الإدارة القرطاسية اللازمة والكهرباء وحضور الموظفين!

أما لجهة إخفاق المجلس الدستوري في هذا القرار، بنظرنا، فقد وقع عندما لم يُقدِم هذا المجلس في متن قراره على تحديد مهلة لإجراء الانتخابات لا تتعدى تشرين الثاني من هذا العام حداً أقصى!! ربّ من يقول هذا الأمر ليس من صلاحيات القاضي الدستوري، لكونه يُقحِم نفسه بصلاحيات خاصة بالسلطة التشريعية، ويكون قد أحلَّ تقديره مكان السلطة التقديرية للمشرع لجهة تحديده مهلة التنفيذ! وقد سنحت له الفرصة للتدخل في هذا الأمر لو طبّقَ آلية التفسير المعتمدة منذ أكثر من خمسة عقود من قبل المجلس الدستوري الفرنسي ونظرائه الأوروبيين، والمعروفة بتقنية [المطابقة بشرط – Conforme sous condition] – أتمنى هنا مراجعة كتاب العلامة دومينيك روسو الموجود في مكتبة المجلس الدستوري بدليل الاستشهاد به في متن القرار – وكان عليه تطبيق هذه الآلية التفسيرية في خاتمة الفقرة الأخيرة من البند 4 التي جاءت كالآتي:

وحيث إن ترك المشترع للسلطة الإدارية أمراً هو من صلاحيته المقررة في الدستور من ضمن صلاحيات شاملة، تتناول في ما تتناوله الموعد الذي تجرى خلاله الانتخابات هو أمر مخالف للدستور، علماً أنه كان بالإمكان تجنب هذه المخالفة الدستورية بعدم تضمين النص كلمة “أقصاه”.

هنا كان بإمكان المجلس الدستوري، أن يتمسك بآلية “المطابقة بشرط” الآنفة الذكر، ويُعدِّل في هذه الحيثية لجهة إلغاء كلمة “أقصاه” ما دام استشعرَ أنها تنطوي على مخالفة دستورية، حيث من واجبه أن لا يتركها قائمة في نص القانون، حيث إن روحية النص تنطوي على أن المشرع ترك تحديد المهلة للسلطة التنفيذية، هنا نتحفظ على تفسير المجلس الدستوري على كلمة “أقصاه” لأنه تمديد جزئي استثنائي مفسحاً المجال أمام الإدارة ومن باب التعاون بين السلطات أن تختار التوقيت الملائم لإجراء الانتخابات، وهذا التفسير الذي انتهى إليه المجلس الدستوري، كان من الممكن التسليم به لو أن التمديد جاء لولاية كاملة، حيث لا يجوز للسلطة التنفيذية اختيار التوقيت، إلا ما يتوافق مع نهاية الولاية الممدّدة بالكامل، وكان بإمكانه من خلال روحية النص التأكيد على إجراء الانتخابات في أقرب فرصة ممكنة، كما ورد أعلاه. هذا القانون الذي توافقت أكثرية أعضاء المجلس على ضرورة عدم إبطاله نزولاً عند متطلبات استمرارية المرفق العام، وبالتالي جاءت الحيثية ما قبل الأخيرة من البند رقم 5 واضحة لجهة الاعتماد عليها لاتخاذ موقف دستوري لا غبار عليه بقوله “وحيث إنه منعاً لتفاقم الفراغات ولأجل تأمين استمرارية عمل المرافق العامة”. هذا التعليل بحد ذاته كافٍ من الناحية الدستورية لصدّ كافة الانتقادات!!
هذا التعليق الذي أيّدنا فيه القرار وفي ذات الوقت قلنا إن المجلس الدستوري قد أخفق في موقع آخر منه، إنما نهدف من وراء ذلك، إلى تفعيل المبادئ التي يستند إليها القاضي الدستوري حول العالم، ولبنان جزء من هذا العالم، كي نحقق هدفاً وهو الحفاظ على هذه السلطة الدستورية، ونبعد عنها المواقف المشكِّكة في مصداقيتها، لأن قرارات القضاء الدستوري لا بُدَّ من أن تكون هادفة لتحقيق مصلحة عليا وعامة، دون الدخول في زواريب السياسة، وما أكثرها في لبنان.