Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر January 3, 2024
A A A
أوراق الإبادة أمام «العدل الدولية»: جنوب أفريقيا تتعقّب إسرائيل
الكاتب: محمد عبد الكريم أحمد - الأخبار

 

في وقت تتواصل فيه حملات تمويه عربية «افتراضية» مكثّفة لإبراء ذمّة العواصم العربية من تهمة التخاذل، أو التواطؤ، إزاء ما يحدث في غزة، بادرت جنوب أفريقيا، قبيل نهاية 2023، إلى رفع قضيّة ضدّ الكيان الصهيوني أمام «محكمة العدل الدولية»، تتّهمه فيها بارتكاب إبادة في القطاع، مرفقةً دعواها بمطالبة المحكمة بالانعقاد «في غضون أيام قليلة» لإصدار «إجراءات مؤقتة» بهدف الدعوة إلى وقفٍ لإطلاق النار، فيما أكدت المحكمة أن الدعوى تندرج في إطار قواعدها القانونية.
بريتوريا: نحو تحرّك دولي لوقف الإبادة وإدانتها
استندت جنوب أفريقيا، في دعواها المقدّمة أمام المحكمة، والتي جاءت في 84 صفحة، إلى واحد من أقدم نصوص الأمم المتحدة: «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها» (كانون الأول 1948)، منطلقةً أساساً من المادة الثامنة من تلك الاتفاقية، والتي تخوّل الأطراف المتعاقدين مطالبةَ أجهزة الأمم المتحدة المختصّة باتّخاذ «ما تراه مناسباً من تدابير لمنع أفعال الإبادة الجماعية وقمعها…». ومن جهتها، أكدت الرئاسة الجنوب أفريقية، في بيان، التزام بريتوريا بمنع الإبادة، وأنها طالبت بجلسة استماع عاجلة في المحكمة مطلع العام الجديد. ووصَف الطلبُ الجنوب أفريقي، الجرائم الصهيونية بأنها «إبادة في طبيعتها»، لأنه «يُقصد منها تدمير جزء كبير من الجماعة الوطنية والعرقية والإثنية الفلسطينية». وعزّز خبراء صحةَ الدفوع الجنوب أفريقية في الدعوى (غارديان، 29 كانون الأول)، بالاستناد إلى التصريحات الإسرائيلية المتعاقبة التي تؤكد عامل القصد المسبق، من مثل وصف وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، الفلسطينيين في غزة بأنهم «حيوانات بشرية»، وقول المايجور جنرال، غسان آلان: «تجب معاملة الحيوانات البشرية بما هي عليه. لن يكون هناك كهرباء ولا مياه (في غزة)، لن يكون هناك سوى دماء. لقد أردتم الجحيم، ولسوف تنالونه». ثم إنّ توافر جانب القصد (الذي يُعدّ من أهمّ شروط توصيف الإبادة) يمثّل، إلى الآن، دعماً قويّاً لمسعى بريتوريا. لكن آخرين قلّلوا من شأن الخطوة باعتبارها «وسيلة فعّالة لتشكيل النقاشات الدولية حول الصراع» (في غزة)، وأنها تأتي في سياق خطوات أخرى لتحويل المحكمة إلى منصة أخرى «للنزاعات الديبلوماسية العامة» على غرار الجمعية العامة في الأمم المتحدة. لكن الدعوى الجنوب أفريقية بدت متماسكة جداً، وتُعدّ خطوة متقدّمة في إدانة إسرائيل دوليّاً في ظلّ تقارير مستمرة عن ارتكاب الأخيرة جرائم دولية من «مثل الجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب».

الاستجابة الإسرائيلية لخطوة بريتوريا: مجرّد «فرية دم»!
سارعت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى الردّ على خطوة بريتوريا، ببيان اتّهمت فيه الأخيرة بالمشاركة في «فرية دم» blood libel (في استعارة للمصطلح الرائج في عهد النازية والقائم على اتهام اليهود باستعمال دم الأطفال غير اليهود في طقوس دينية) ضدّ «الدولة اليهودية»، معتبرةً أن ما وصفته بـ«الادّعاء» الجنوب أفريقي «ليس له أساس واقعي وقضائي»، بل هو «استغلال حقير ورخيص للمحكمة».
قرّرت إسرائيل المثول أمام «محكمة العدل الدولية» للردّ على الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا

كما اتّهمت جنوب أفريقيا بالتعاون مع «جماعة إرهابية تنادي بتدمير دولة إسرائيل»، زاعمةً أن الجيش الصهيوني «لا يستهدف المدنيين في غزة». ويتّضح من البيان الإسرائيلي البائس، والذي يحاول الاحتماء مجدّداً بتجربة «الاضطهاد النازي» لتبرير الحملة العسكرية ضدّ غزة، أن الخطوة الجنوب أفريقية، ورغم مآلاتها غير المضمونة في مسار الضغط الفعلي على الكيان، تمثّل ذروة المواجهة مع إسرائيل منذ السابع من أكتوبر. كذلك، بدا خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ردّاً على بريتوريا (31 كانون الأول)، تبريرياً على نحو متهافت، إذ ادّعى تصرُّف القوات الإسرائيلية بـ«أخلاقية غير مسبوقة في قطاع غزة»، وأن «حماس كانت لتقتل جميع الإسرائيليين لو كان في مقدورها». ومع ذلك، أفادت وسائل إعلام إسرائيلية بأن إسرائيل قرّرت المثول أمام «محكمة العدل الدولية» للردّ على الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا، فيما ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن جيش الاحتلال والجهات السياسية عقدت عدّة اجتماعات أخيراً لبحث التعامل مع دعوى بريتوريا.

خلاصة
جاءت خطوة بريتوريا الأخيرة في توقيت مناسب تماماً، وبالتزامن مع تصريحات عدوانية كرّرها نتنياهو نهاية العام الفائت، عن أن الحرب في غزة ستستمرّ لأشهر مقبلة، تزامناً مع وضعه شروطاً «تعجيزية» لإنهائها أو لوقف مطوّل لإطلاق النار.
وفي ظلّ هذا التصعيد الديبلوماسي، بدت الاستجابات العربية – الإسلامية تجاه المبادرة الجنوب الأفريقية فاترة وأسيرة الترقّب والانتظار على نحو بات مألوفاً في واقع الأمر. وبين تحرُّك جنوب أفريقي «رائد» في مواجهة العدوان الصهيوني، واستجابات عربية مخيّبة للآمال، خرجت المؤسسة الأمنية والقضائية الإسرائيلية (هآرتس، 1 كانون الثاني) لتعلن عن مخاوفها الجادّة من رجحان توجيه «محكمة العدل الدولية» الاتهام إلى إسرائيل بارتكاب إبادة في غزة. ونقلت الصحيفة عن الخبيرة في القانون الدولي، شيلي أفيفي يني، قولها إن «قناعة المحكمة بالدعوى الجنوب أفريقية ستعزّز تصوّر ارتكاب إسرائيل إبادة في غزة».

 

الردود العربية والإسلامية: ترحيب شعبي و«تحفّظ» رسمي
عبّرت السلطة الفلسطينية عن تقدير بالغ لخطوة جنوب أفريقيا، فيما بادرت خارجيتها إلى دعوة «محكمة العدل الدولية» إلى الإسراع في إجراءات القضية التي رفعتها بريتوريا، والضغط على إسرائيل «لمنع أعمال الإبادة» التي تقوم بها في قطاع غزة. ومن جهتها، أعلنت «منظمة المؤتمر الإسلامي» التي تتولّى إحدى لجانها حالياً مساعي طرح الأزمة في غزة على الدول الكبرى، ترحيبها بالخطوة الجنوب أفريقية، مشيرةً، في بيان، إلى أن «إسرائيل ارتكبت إبادة بقتْلها وجرحها عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وحرمانهم من الوصول إلى المعونات الإنسانية». وإذ نالت خطوة بريتوريا تغطية إعلامية عربية مكثّفة، فإن هذه الحماسة لم تنسحب على أيّ حال على الموقف العربي الرسمي الذي يبدو متحفّظاً عن دعم الخطوة. وكشفت عن هذا التناقض نسبياً، مطالبة منافذ إعلامية جنوب أفريقية (صوت الكيب – 1 كانون الثاني) كلّاً من «منظمة التعاون الإسلامي» و«جامعة الدول العربية»، بانتهاز الفرصة لقيادة جهد دولي يقود إلى فرض حكم القانون والعدالة عالمياً، على اعتبار أن اللحظة الراهنة تمثّل فرصة «للاستجابة لمطالب مواطني الدول الإسلامية والعربية للتحرّك والوصول إلى سبل قانونية للاستجابة لجرائم الحرب» التي ترتكبها إسرائيل.