Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر September 25, 2023
A A A
أموال حقوق السحب الخاصة “خدمت عسكريتها”… فماذا بعد؟
الكاتب: سلوى بعلبكي - النهار

يوم تبلّغ لبنان في أيلول 2021 من صندوق النقد الدولي أن 1.139.951 مليار دولار، من حقوق السحب الخاصة التي يوزعها الصندوق لدعم السيولة العالمية في طريقه الى حساب الدولة اللبنانية في مصرف لبنان، أتى الخبر كأنه “شحمة على فطيرة” بالنسبة الى ساسة البلد والمسؤولين فيه. يومذاك كانت المنازلات قائمة، والصراع على بقايا الإحتياط مستعرا، بين السلطة من جهة ومصرف لبنان من جهة أخرى.

مطالب الدولة كثيرة، لكن “العين بصيرة”، ويد مصرف لبنان قصيرة، فكان ما كان، تدبير من هنا فيه استعمال للإحتياط، وآخر من هناك، عبر شراء الدولارات من السوق مباشرة مع ما كان للخطوة من تداعيات على سعر الصرف.

حطّت دولارات الـ SDR في خزائن مصرف لبنان، لكن الإمرة عليها ليست له، فهي حقوق لمصلحة الدولة منفردة، وللحكومة وحدها حق الولاية عليها، وتقرير مصيرها، صرفاً على حاجاتها إذا شاءت، أو توفيراً لساعة تدقّ فيها أجراس الضرورات القصوى.

بدأت بين السياسيين والدولة والخبراء الإقتصاديين، حفلة زجل ونصائح وتوجيه في كيفية استعمال هذه “الخرجية الحرزانة”. فمنهم مَن طالب بتحويلها الى المصارف لتسديد الودائع الصغرى، ومنهم من اقترح استعمالها لتخفيف العبء الإجتماعي والصحي عن الناس، وغيرهم طالب بجعلها جزءاً من برنامج تمويل وطني شامل للعائلات الأكثر حاجة، وذهب آخرون بمطالبهم إلى إهمال جميع الإقتراحات، واستعمالها بكاملها لأجل بناء معملَي كهرباء!

الحكومة استمعت وسجلت في “المحضر”، لكنها ذهبت الى تأمين أولوياتها وفواتيرها الطارئة جدا والضاغطة إجتماعيا وإنسانيا.

أدوية الأمراض المستعصية ضرورة إنسانية لا مفر من تأمينها، والقمح لزوم الخبز والأمن الإجتماعي سُدد ثمنه. تسديد فواتير الدولة الخارجية، ومستحقات المنظمات الدولية والصناديق، ولعدم عزل لبنان عن العالم أكثر تم تمويل طباعة جوازات السفر، والإستجابة لتمويل خطة إصلاح كهربائي وصيانة المعامل لإبقاء الشبكة على قيد الحياة.

أنقذ المليار الحكومة مرات عدة، ومعها احتياطات مصرف لبنان التي كان اللجوء إليها حتمياً آنذاك وممكناً، في ما لو لم يتم تأمين البديل، وسد ثغرات تمويلية كانت مستعصية، وخفف خلال العامين الماضيين عن كاهل اللبنانيين بعض الأحمال الثقيلة، مثل ديمومة الطحين في الأفران، والأدوية والباسبورات وغيرها.

لكن “القجّة” فرغت، وما بقي من المبلغ لا يغطي الكثير المطلوب من فواتير الدولة. وفي المقابل يجلس على كرسي حاكمية مصرف لبنان حاليا من يرفض ثقافة “دبّرها يرضى عليك”، ويصرّ على الدولة أن تؤمّن سيولتها بنفسها، حاسما وجازما أنه لن يقع في “تجربة” استنزاف الباقي من الإحتياط مهما كلّف الأمر، فما العمل؟

يعيب الكثيرون على الحكومة صرفها المليار دولار بعشوائية، لكن المدقق في جدول صرفه، لا يسعه مجاراة إتهاماتهم، ففقدان الثقة بالسلطة السياسية وبالحكومة، لعلة تقاعسهما عن إدارة أمور الدولة، والإنكفاء عن وضع خطط وقوانين إنقاذية للإقتصاد، بما تحتمه مسؤولياتهما وضميرهما، لا يبرر ذلك، ولا يلغي أن المنحة الدولية التي وُهِبناها في أحلك الظروف المالية والنقدية، وغياب وحدة القرار في الدولة، والشغور الرئاسي، ذهبت لمعالجة أسوأ إشكاليات طارئة وضرورية، معظمها إنساني واجتماعي.

كيف أنفقت الدولة مبلغ الـ SDR؟

في أيلول 2021، حوّل صندوق النقد الدولي إلى مصرف لبنان 607.2 ملايين وحدة من وحدات الحقوق الخاصة في إطار التوزيع العام لمخصصات حقوق السحب التي نفّذت في تلك الفترة لدعم سيولة البلدان الفقيرة إثر جائحة كورونا. وعمدت الحكومة اللبنانية فورا الى بيع حصصها مقابل 1.139.951 مليار دولار حوّلت إلى حساب الخزينة في مصرف لبنان.

خلال عامين انفقت الدولة ملياراً و63 مليوناً و500 الف دولار تقريبا، ليتبقى نحو 76 مليونا و500 الف دولار من حقوق السحب الخاصة من ضمنها الفوائد المترتبة، اي نحو 6.71% من مجموع المبلغ.

وبحسب ارقام وزارة المال لغاية تاريخ 22/9/2023، يتبين أن دعم الأدوية استهلك نحو 478 مليونا و315 الف دولار من المبلغ، اي ما نسبته نحو 45% من المجموع، و163 مليونا و518 الف دولار لتسديد قروض خارجية (15.38%)، كما حصلت “مؤسسة كهرباء لبنان” (شركات مقدمي الخدمات) على 162 مليونا و175 الف دولار (15.25%)، ونحو 70 مليون دولار للفيول (6.53%)، وأنفق أكثر من 134 مليون دولار لدعم شراء القمح (12.61%)، و13 مليونا و250 الف دولار لتغطية نفقات خاصة لإصدار جوازات السفر(1.25%)، و683.496 دولارا رسوم قانونية لوزارة العدل (0.06%)، ونحو 35 مليون دولار لقاء رسوم خاصة بحقوق السحب (SDR charges) (3.29%)، و7 ملايين دولار نفقات لأشغال عامة (0.66%).

ويتبين من أرقام المبالغ أن دعم شراء الادوية والقروض والتحويلات لمؤسسة الكهرباء تشكل نحو 75.6% من المبالغ التي صُرفت، في حين أن المبلغ المتبقي يمكن أن يكفي شهرين لدعم شراء الادوية، بما يعني أن أموال حقوق السحب الخاصة اصبحت قاب قوسين من التبخر. في المقابل، تتخوف مصادر متابعة من أن مصرف لبنان قد يواجه مشكلة في استمرارية تأمين الاموال للأدوية، ورواتب القطاع العام، خصوصا اذا خفّت سيولة الدولار من السوق، وبما ان “المركزي” قرر ألّا يمسّ أموال الاحتياط، فإنه سيضطر الى تأمين نفقات الدولة بالدولار من السوق، وتاليا فإن مخاطرها على سوق الصرف كبيرة. لذا يعكف “المركزي” على البحث في السبل لتأمين الدولارات للدولة من دون ان يتأثر سعر الصرف، على ان تكون بطريقة تدريجية ومدروسة، وتساعده الدولة في المقابل على اعادة جدولة مدفوعاتها، علما أن “المركزي” يشتري الدولارات للدولة من ايراداتها بالليرة “الكاش”.

ايرادات الدولة الى ازدياد؟

فيما يزداد التخوف بعد استهلاك دولارات حقوق السحب الخاصة، يبدو أن ثمة طاقة ستُفتح وستساعد في عملية تمويل الدولة وموازنتها، فوفق معلومات “النهار” أن الايرادات ارتفعت بنِسب لافتة أخيرا، بما يؤكد أن الدولة إذا ما حزمت امرها جيدا فإنها ليست بحاجة، ولن تكون مستقبلا، للجوء الى الاستدانة من الاسواق المحلية والخارجية، وقطعاً يمكنها اذا ما مارست ووضعت الخطط اللازمة لاعادة اطلاق الاقتصاد.

فوزارة المال كانت متحفظة بعض الشيء حيال تقديراتها للايرادات في موازنة 2023 إذ قدرتها بنحو 147 تريليون ليرة، لكن الايرادات الفعلية التي يُتوقع تحقيقها خلال العام 2023 قد تصل الى نحو 240 تريليون ليرة اي نحو 2.7 ملياري دولار، بدليل أنه حتى 15 ايلول الجاري سجل مجموع الايرادات أكثر من 147 تريليون ليرة التي توقعتها موازنة 2023 عن السنة كاملة. واللافت أن أكثر من نصف الايرادات بدأت الدولة تحصيلها منذ فترة، بشكل نقدي – “كاش” (نحو 14 تريليون ايرادات “كاش” شهريا اي ما يوازي 160 مليون دولار على سعر السوق)، ويتوقع أن تزيد الايرادات مع عودة الموظفين الى مزاولة اعمالهم بشكل معتاد واعادة فتح الدوائر العقارية، علما أن معظم الايرادات تؤمَّن حاليا من الجمارك والـ TVA خصوصا بعدما اصبح الدولار الجمركي على سعر “صيرفة”، وتاليا يبدو ان وزارة المال لن تحتاج الى اي دولار من مصرف لبنان ولا حتى اي ليرة، باستثناء قيام المصرف المركزي بشراء دولار لمصلحة المالية من السوق لتلبية حاجتها بالنقد الاجنبي.

بالنسبة الى النفقات، فقد قدرتها وزارة المال في موازنة 2023 بنحو 181 تريليون ليرة وقدّرت العجز بنحو 35 تريليوناً، وتاليا فإنه مع زيادة الايرادات يتوقع أن يكون هناك توازن بين الايرادات والنفقات، وقد ينتهي العام 2023 من دون عجز في الموازنة، وهذا اذا ما حصل، يكون للمرة الاولى منذ عشرات السنين.