Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر September 27, 2024
A A A
أما وقد وقعت الحرب: فليس على اللبنانيين سوى التكاتف والتضامن
الكاتب: د. عادل مشموشي

كتب د. عادل مشموشي في “اللواء”

من الطبيعي أن تكثر التحليلات والتأويلات عن الحرب الدائرة في لبنان ما بين العدو الإسرائيلي والمقاومة بمكونها الرئيسي حزب لله، إلَّا أن تقدير الموقف تجاه ما حصل ويحصل اليوم ومآل الأمور مستقبلًا يستدعي تشخيص الوضع الراهن وتحليل المعطيات كي يأتي استقراء الإحتمالات المستقبليَّة مبنيًّا على تحليل منطقي ومتجرد، كما يتطلَّب منا أن نستعرض، ولو بعجالة، ما حصل في غزَّة ومنطقة الشرق الأوسط برمَّتها ذلك أن المَعركة القائمةَ اليوم في لبنان ما هي إلَّا امتداد للحرب التي أطلقها العدو الإسرائيلي في قطاع غزَّة ردًّا على عمليَّة طوفان الأقصى وانعاساتها على امتداد ساحات محور الممانعة أو المقاومة، وردَّات الفعل التي بدت من كل طرف فيها تجاه ما يحصل.
أطلقت منظمة حماس صبيحة السابع من تشرين الأول من العام الفائت عمليَّة طوفان الأقصى، معتبرة إياها فاتحةً لمعركةٍ شاملةٍ على امتداد جبهات محور الممانعة وقد تضمن بيانها الأول دَعوة لقوى المقاومة للإنخراط في الحرب، وقد ظَنَّ المتابعون لبرهة من الوقت أن المنطقة دخلت في حرب مفتوحة أعدَّ لها محور الممانعة ووفَّرَ لها مقومات نجاحها، وذلك لكثرة التأكيدات التي كان يطلقها المتحدثون باسمه ومناصروه من أن المنازلات القادمة ستكون حروبًا مفتوحة تشمل كل الجبهات؛ إلَّا أن النِّداء لم يلقَ تجاوبًا فوريًّا نظرًا للمواقف والتحذيرات التي صدرت عن أعلى المراجع في كل من الولايات المتحدة الأميركيَّة والدول الأوربيَّة الفاعلة في حلف شمال الأطلسي والتي ترجمت بإعلان الدعم المطلق للكيان الإسرائيلي سياسيًّا وعسكريًّا ولوجستيًّا وبإرسال الأساطيل البحرية بما فيها من حاملات طائرات ومدمرات وغواصات نووية وجسور إمداد عسكري ولوجستي جويَّة وبحريَّة، بحيث شكَّلت مجتمعةً رسالةً واضحةً تنطوي على تهديدات مبطَّنة لكل من تسوِّل له نفسه الإنخراط بالحرب إلى جانب منظَّمة حماس؛ واكتفت مكونات محور المنوّه عنه بادئ الأمر ببيانات التَّأييد، وحفاظًا على ماء الوجه استعيضَ عنها بتبني مصطلح جبهات الإسناد، وبدأت المناوشات بين حزب لله وإسرائيل عبر الحدود اللبنانيَّة الفلسطينيَّة، أما باقي الجبهات العراقيَّة واليمنيَّة فكانت الاستجابة عن بُعد عبر إطلاق بعض المسيَّرات الجويَّة والصواريخ البالستيَّة ذات التَّأثير المحدود واعاقة الملاحة من وإلى ميناء إيلات الإسرائيلي، وهذا ما وفَّر للكيان الإسرائيلي فرصة لربط النِّزاع مع تلك الجبهات، الأمر الذي أتاح الفرصة للعدو بتأجيج أي منها عندما يشاء.

اتَّخذ قادة الكيان الإسرائيلي المتشددون عمليَّة طوفان الأقصى كشرارة لحرب مفتوحة في وجه محور الممانعة كانوا يعدون العدَّة لها منذ ما يزيد عن عقد من الزَّمن، وهم يرونها حربًا مصيريَّةً تسهل عليهم إحكام سيطرتهم على منطقة الشرق الأوسط والقضاء على طموحات منافسهم الرئيسي «إيران» بتقويض قدراتها العسكريَّة النَّوويَّة وغير النَّوويَّة. ولم يُفصحوا بادئ الأمر عن حقيقة نواياهم وغايتهم الرئيسيَّة من هذه الحرب، ليتمكنوا من الاستفراد بهم واحدًا تلو الآخر، لكونهم يدركون أن خوض غمار هكذا حرب دفعةً واحدة وعلى كل الجبهات في وجه جميع مكونات محور الممانعة أمر مرهق ولا يمكنُهم القيام به منفردين، لذا توكَّلت الولايات المتحدة الأميركيَّة والدول الغربيَّة المتحالفة معها مهمَّة التَّعامل مع الجبهات البعيدة على أن تتولى إسرائيل التَّعامل مع الجبهتين الفلسطينيَّة (داخليَّة) واللبنانيَّة (خارجيَّة)، وتظاهروا بأن نواياهم تقتصر على الاقتصاص من مُنظمة حماس زاعمين ألَّا رغبة لديهم بتأجيج الصِّراع على الجبهة اللبنانيَّة وذلك بغرض الإستفراد بحماس التي اضطرت منفردة لخوض غمار حرب غير متكافئة استغل العدو وجود أسرى لديها لارتكاب أبشع عمليَّة إبادة جماعيَّة شهدتها البشريَّة والتي تخلَّلها الكثير من جرائم الحرب، حرب ضد الإنسانيَّة وإرهاب الدَّولة بحق الشعب الفلسطيني، كما تعمَّدوا تقويض كل مقومات الحياة فيها لدفع من تبقى من أهلها للمغادرة فور توفر الإمكانية، وبقي رئيس الوزراء الإسرائيلي يناور في إعاقته الوصول إلى أي اتفاق ينهي قضيَّة الأسرى، واتَّخذ من تحريرهم شمَّاعة لإطالة أمد الحرب والتنكيل بالشعب الفلسطيني.

يريد نتنياهو ومن خَلفه أن تكون هذه الحرب آخر الحروب في مسار تثبيت الكيان من خلال القضاء على القضيَّة الفلسطينية، وتكريس الهيمنة الصهيونيَّة على منطقة الشرق الأوسط، بحسم معاركه على مختلف الجبهات لصالح إسرائيل، ليتسنى له لاحقًا إنهاء حالة الصِّراع بينها وبين محيطها العربي بتفعيل المسار التَّطبيعي مع الدُّول العربيَّة؛ مقابل التوجهات الإسرائيلية كانت إيران، ومعها باقي مكونات المحور، يرون أن استمرار العمليَّات العسكريَّة على إسرائيل سواء من الدَّاخل أو الخارج، وزيادة مستوى التَّهديدات التي توجهها ستُبقي هذا الكيان مخلخلًا وغير مستقر، وقد يدفع بالعديد من اليهود الذين قدموا إليه إلى العودة من حيث أتوا، هذا بالإضافة إلى أن التَّغيير الديمغرافي مع مرور الوقت ليس لصالح الصهاينة، وعليه سوقت لمقولة اقتراب أوان انهيار هذا الكيان ولم يبقَ سوى العمل على زواله، وهي، أي إيران، لم تنفك عن استغلال كل الفرص المتاحة لتطوير قدراتها العسكريَّة وتعزيزِ قُدراتِ المُنظمات الدائرة في فلكها في مختلف الدول العربيَّة ولا سيما في كل من لبنان وفلسطين وسوريا والعراق واليمن.

في السنوات الأخيرة رفعت إيران ومختلف أذرعها من وتيرةِ خطاباتهم، وأخذوا يرَوجون لمقولة أن استقرار الجبهات مرده إلى توازن الرعب ما بين الطرفين، وأن الطَّرف الإسرائيلي أمسى في وضع مأزوم كونه محاط بجبهات واسعة ومتماسكة وقادرة على إيذائه، وأن لدى إيران من الأسلحة ما يكفي لهزيمة الجيش الإسرائيلي، وأنه فيما لو عمد العدو إلى شن أي حرب على أحد المكونات سيكون في مواجهة كل الجبهات التي بإمكانها مجتمعة القضاء على قدراته العسكريَّة وتدميره. وأن إيران أضحت بما لديها من صواريخ بعيدة المدى وأخرى ذكيَّة وأقمار صناعيَّة ومسيَّرات تتمتَّع بقدرات عسكريَّة رادعة قادرة على حماية نفسها وباقي التَّنظيمات التي تدعمها، ولكن في المقابل يبدو أن الكيان الإسرائيلي كان غير غافل عن النشاطات النووية الإيرانية وهذا ما يفسر إصرار نتنياهو على إقناع حلفائه الأميركيين على ضرب المشروع النووي الإيراني، كما اتضح في ما بعد أن إسرائيل كانت متابعة لتفاصيل ما يدور على امتداد الجغرافيا الممانعة وخاصة لجهة شحنات الأسلحة وأماكن تخزينها والخلايا المشرفة على كل ذلك، وهذا ما يفسر إصرارها على تعطيل المطارات السورية وتكرار استهدافاتها شبه اليومية لشحنات الأسلحة ومخازن إيوائها المؤقتة، إلَّا أن ما لم يكن بالحسبان ذاك الخرق الإستخباري التقني الذي بدت بوادره مع اصطياد العديد من القادة الميدانيين وسدنة الصواريخ على امتداد الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية، والتي وصلت أوجها في استهداف آلاف من عناصر الحزب دفعة واحدة في ما عرف بعملية البايجرز (Pagers)، والتي أعقبها في اليوم التالي عملية مشابهة أجهزة الإتصال اللاسلكيَّة talkie walkie (ICOM)، هذا بالإضافة إلى خرق ميداني «أي وجود عملاء» وهذا ما يفسره وصول العدو الإسرائيلي إلى معلومات على قدر كبير من السريَّة حول اجتماعات قياديين ميدانيين في إحدى القرى الجنوبية واستهداف آخر لاجتماع جمع قائد وحدة الرضوان مع عدد من مُساعديه في الضاحية الجنوبية وهذا ما يوحي بوجود خرق على مستوى القيادة العليا، والذي تسبَّب بضربة موجعة لقوى الرضوان منيت بتصفية قائدها وكبار مساعديه، ولم يكتف العدو بهاتين الضربتين القاسمتين بل عمد إلى استهداف مئات الأهداف في أماكن غير مأهولة على امتداد منطقتي الجنوب والبقاع زاعمًا أنه دمر مئات مخازن الأسلحة ومنصات إطلاق الصواريخ، وأعلن قادة العدو الحرب على الحزب الذي ظنوا أنهم أنهوا قدراته البشريَّة وحرموه من ترسانته التسليحيَّة التي يختزنها في مناطق مختلفة.

مما لا شك فيه أن الضربات السيبرانية وتصفية بعض القيادات العسكريَّة في الحزب أربكت قيادته وأضعفت قدراته إلَّا أنها لم تقض عليها، إذ سرعان ما رمَّم الحزب قدراته البشريَّة واستعاد شيئًا من زمام المبادرة مبديًا وبدا قادرًا مجدَّدًا على توجيه صواريخ ومُسيرات في غضون 24 ساعة مستهدفًا المواقع العسكرية للعدو في شمال فلسطين بالصواريخ والمسيرات، لا بل تعمَّد إطلاق صواريخ متوسطة المدى من طراز فادي (1 و2 و3) وصاروخًا واحدًا من طراز قادر، والذي أعلن العدو أنه كان موجها إلى تل أبيب وأنه تم إسقاطه قبل وصوله لهدفه.
لم تكن الانتكاسات الإستخباراتيَّة والميدانيَّة المتمثلة باغتيال أعداد كبيرة من عناصر الحزب وقيادييه وحدها التي فاجأت اللبنانيين، إنما المفاجأة الكبرى جاءت دبلوماسيَّة ومن أروقة الأمم المتحدة ومن أرفع القيادات الإيرانيَّة والتي كشفت عن تحول جزري في المواقف الإيرانيَّة عندما أعلن الرئيس الإيراني صراحة عن عدم رغبة إيران في الدخول بحرب مع إسرائيل واستعدادها للسير بحلول سلميَّة، وزاد في الطين بلة إعلان وزير خارجيته أن حزب الله غير قادر على مجابهة العدو منفردًا الأمر الذي دفع بالمرشد إلى التخفيف من وقع التصريحات المتسرعة بإعلانه أن الحزب بم يزل لديه الكثير من القدرات العسكريَّة، ولكن سبق السيف العزل، إذ بدى واضحًا أن إيران غير مستعدَّة فعلًا لخوض غمار الحرب إلى جانب مهما كانت قساوتها على أي من أزرعها، وأنها توحي باقتصار دعمها للحزب عبر تنشيط جبهات الدعم، رغم علمهم جميعًا بعدم فاعليتها على مجريات المَعركة، ورغم محاولة إيران الظهور بمظهر حمامة سلام مُتخليَّة عن كل مواقفها السابقة المتصلبة ومتنكرة لكل المُعادلات التي كانت تردِّدُها، والتهديدات التي كانت تطلقها، فكشفت ضعفها، بمجرَّد تخليها عن وعود الانتقام التي كانت تطلقها وتردِّدها، كما بانكشاف زيف تلك الإشاعات التي كانت تتلطى خلفها.

كل رسائل التطمين التي أطلقها الإيرانيون بغرض لجم تسارع وتيرة الأحداث العسكريَّة في لبنان لم تعر أي اهتمام من العدو وداعميه ولم تستأهل مجرَّد تعلق، وهذا ما يدفع بالعدو إلى السير قدمًا في مخططه الذي عبر عنه نتياهو بوضوح «إن المعركة مستمرَّة لحين تغيير خارطة الشرق الأوسط»، هذه الغاية لا يمكن عمليًّا تحقيقها إلَّا من خلال بلوغ أهداف أستراتيجيَّة خطيرة تتمثِّل في القضاء على القدرات العسكريَّة لمُختلف مكونات محور الممانعة، وبدأ بتنفيذها منذ عملية طوفان الأقصى، وللأسف حقق هدفها الأول بالقضاء على القدرات العسكريَّة لمنظمة حماس، واكتفى بالتعريج على الضِّفَّةِ الغربيَّة، وهو اليوم في طور تحقيق الفصل الثاني من المخطط «أي القضاء على قدرات حزب لله»، وحتمًا سيسعى الكيان إلى استكمال مخططه بتنفيذ باقي الفصول في دول أخرى وصولًا إلى الفصل الأخير والذي يتمحور حول القضاء على القدرات العسكريَّة لإيران.
للأسف كل المؤشرات توحي بأن توقف الأعمال القتاليَّة وإنهاء الحرب غير متوفرة ظروفه، لأن أسباب نشوبها أبعد مما يعلنه الكيان الإسرائيلي لجهة القضاء على تنظيم حماس عسكريًّا، وتمكين سكَّان المُستوطنات في شمال إسرائيل من العودة إلى مساكنهم، فثمَّة أسباب استراتيجيَّة يسعى إليها العدو وداعميه تتمثَّلُ في تقويض قدرات جميع مكونات المِحور بمن فيهم الحوثيين وشل قدرتهم على شن أية هجمات على الكيان الإسرائيلي، وثمَّة هدفٌ أبعد يتمثَّلُ في القضاء على الطوحات الانفلاشيَّة الإيرانيَّة، بتدمير برنامجها النويي وتقويض صناعاتها، والتي يبدو أنها لم تعد تشكل مصدر قلق لإسرائيل وحدها إنما لمُختلف الدُّول الغربيَّة ودول الخليج العربي التي لم تكن مرتاحة يومًا لنهج تصدير الثورة، ولا لإيديولوجيَّة ولاية الفقيه باعتبارها تنطوي على تدخلٍ في شؤون الدول المجاورة لها. ويرى البعض أنه لن يوقف هذه الحرب الملعونة إلَّا التزام إيران بتخليها عن سياسة دعم أية منظمات أو أحزاب غير إيرانيَّة، وضمان التزامها بمبدأ سلامة وحريَّة الملاحةِ في حوض ومضائق البحر الأحمر، وعدمِ التعرُّضِ لمصالحِ الدول الخليجيَّة، واحترام خصوصيَّة التنوع اللبناني.
أقول ذلك رغم كل ما يشاع مؤخرًا عن محاولات دوليَّة جادة للتهدئة، لاعتقادي بأن وقف هذه الحرب للأسف لا تتوقف على رغبات مُحور المُمانعة الذي يبدو أنه تأخر في طرح مقارباته السِّلميَّة، وليس في يد الرئيس الأميركي الذي أضحى على وشك انتهاء خدماته، إنما للأسف هي متوفرة لدى الجانب الإسرائيلي المتغطرس، والذي تحكم توجهاته وقراراته نواياه المُستقبليَّة المُبيَّتة، والتي يرى أنها أمست أكثر قابليَّةً للتحقيق انكشف عجز إيران ومحورها الممانع عن المواجهه، وهذا ما سيترجم في مقبل الأيان بارتفاع حدَّة الاعتداءات وبمزيد من التَّصلُّبِ بالمواقف وبطرح شروط تَعجيزيَّة.
أما وقد وقعت الحرب، فإن مقتضيات الصمود توجب علينا التَّكاتف والتَّضامن والوقوف إلى جانب المقاومة، سائلين لله أن يلطف بالشعب اللبناني.