Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر June 24, 2019
A A A
أكثر من 13 مليار دولار أميركي سنويًا كلفة الفساد والهدر على الإقتصاد اللبناني
الكاتب: بروفسور جاسم عجاقة - الديار

لم يحتل يومًا الفساد المساحة التي يحتلها اليوم في وسائل الإعلام، ولم يكن يوما الفساد مادّة دسمة في الخطاب السياسي كما هو اليوم. وفي إحصاء بسيط يُكتب ويُقال في وسائل الإعلام أكثر من 13 ألف كلمة عن الفساد يوميًا أي ما يوازي كتاباً! كل هذا ولبنان ما زال يغوص في الفساد القاتل، الفساد الذي يُغرق اقتصاده وماليته العامّة والأصعب أنه يضرب القيم الأخلاقية في مجتمعنا الذي لطالما تغنّى بالقيم الأخلاقية المتناقلة بين الأجيال عبر السنين ولكن أيضا بقيمه الدينية.
كتبنا في جريدة «الديار» بتاريخ 17 حزيران 2019 مقالا بعنوان «الفساد الآفة التي أوصلت الدين العام إلى 86 ملياراً» وشرحنا فيه كيف تراكم هذا الدين عبر السنين منذ انتهاء الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا. أهمية هذا المقال تكمن في إظهاره أن مسؤولية تراكم الدين العام تقع على كل الحكومات المُتعاقبة والقوى السياسية التي شاركت فيها. فمنها من شارك في الفساد ومنها من لم يُشارك ولكنه وقف مُتفرّجًا على تراجع لبنان على كل الأصعدة.
اليوم ومع تعاظم تداعيات الفساد وعجز القوى السياسية عن معالجته لأسباب عديدة لن نغوص فيها، نرى أنه من الضروري وضع الفساد على منصة التشريح لمعرفة أسباب وأماكن وجوده كما والسبل للقضاء عليه.
عوامل تاريخية، اجتماعية، ثقافية، مؤسسية، واقتصادية
تزخر المراجع العلمية بالحجج والأدلة العملية عن الآثار السلبية للفساد الذي يَحُولُ دون القيام بالاستثمارات المباشرة أكانت أجنبية أو محلّية. هذه الاستثمارات هي المُحرّك الأساسي لأي تطور اقتصادي واجتماعي في أي كيان على هذه الأرض، حيث انه بدونها لا يوجد نمو اقتصادي، وبالتالي لا خلق لثروات يستفيد منها المُجتمع وخزينة الدوّلة.
كل حكومات دول العالم من دون استثناء تُجاهر بمحاربة الفساد وتعتبرها أولوية في سياساتها الاقتصادية. لكن في الدول في طور النمو تعتمد الحكومات هذا الشعار بهدف تلقّي الدعم المالي من المؤسسات العالمية والدول المُلتزمة الإنماء الاقتصادي والاجتماعي (Apergis et al., 2010 ) وعلى الرغم من التعهدات التي تقوم بها الحكومات يبقى مستوى الفساد في هذه الدوّل مرتفعًا.
تشخيص الفساد باعتباره مرضاً في المجتمع هو ضرورة لوضع الدواء المناسب. على هذا الصعيد، عدّة عوامل تخلق الفساد وتُساعد على تمدده في المجتمع:
أولا – العوامل التاريخية، الاجتماعية والثقافية: أول هذه العوامل هو النظام القضائي الذي يُعتبر أحد العوامل الرئيسية التي تؤدي دورا في الفساد. فكلفة هذا الأخير نسبة إلى العقاب تعتمد على كفاءة النظام القضائي وبما أنه في النظرية الاقتصادية يتمّ تحديد الخيارات على أساس القيمة المُرتقبة من كل خيار، فإن نظاماً قضائياً غير فعّال يؤدي حكما إلى تفضيل الفساد على خيار عدم القيام به. من هنا نرى أن الدوّل المُتطورة، تعمد إلى اعتماد قضاء فعّال وتُعطيه كل الوسائل اللازمة بما فيها مساءلة الرؤساء والوزراء والنواب (قضية بيل كلينتون وقضية جاك شيراك…). العامل الثاني هو عامل الثقافة الدينية، فهذه الأخيرة تُفسّر إلى حد بعيد ظاهرة الفساد بحكم أن التقاليد الدينية تُحدّد علاقات الأفراد بالتسلسل الهرمي مع الأسرة ومع الدولة وأجهزتها. ومع أنه لا توجد فعليا علاقة بين الانتماء الديني والفساد، إلا أن الإلتزام الديني للفرد يُعتبر عائقاً أمام تفشّي الفساد. العامل الثالث هو التفتت العرقي واللغوي والسياسي الذي يؤدي دورا إيجابيا في تفشّي الفساد حيث أظهرت الدراسات أن المُجتمعات التي فيها تجزئة عرقية ولغوية وسياسية، يكون فيها مستوى الفساد أعلى من الدول التي تكون فيها التجزئة أقلّ. العامل الرابع هو مستوى التعليم حيث انه كلما زاد مستوى التعلّم، زاد مستوى إدراك الفرد للفساد. على هذا الصعيد، يقول « Weder» ان التأسيس في المدرسة على المواطنة الصالحة يساهم في الحد من الفساد في المجتمعات.
ثانيا – العوامل الاقتصادية: العامل الاقتصادي الرئيسي الذي يُشكّل حافزًا للفساد ضعف النمو الاقتصادي، فانتقال بلد من حالة الفقر إلى حالة الثراء يُقلّل من الفساد. وهذا يعني أن هناك علاقة سببية بين التحسّن في مستوى الدخل وانخفاض الفساد. العامل الاقتصادي الثاني هو الأجور في القطاع العام حيث بحسب الدراسات تدفع الأجور المنخفضة في القطاع العام إلى زيادة مستويات الفساد. أضف إلى ذلك أن بعض المسؤولين «غير الشرفاء» يعمدون إلى استغلال ضعف الأجور في القطاع العام لزيادة ثرواتهم. العامل الثالث هو المدخول الريعي، حيث ان البحث عنه يُفسّر مستويات الفساد المُرتفعة في الدولة. عندما تكون الدولة ذات مركزية كبيرة، يكون لدى المسؤولين الحكوميين موارد إضافية وبالتالي يكون مستوى الفساد مرتفعا (Rose-Ackerman, 1999). والعامل الرابع والأخير هو الانفتاح التجاري إذ تدّل الدراسات على أن الفساد في الدوّلة يكون أقوى مع زيادة الانفتاح التجاري بحكم أن أبواب الفساد تُصبح عديدة.
ثالثًا – العوامل المؤسسية: لعل النظام الديموقراطي، الاستقرار السياسي، النظام السياسي، حرية الصحافة، ونسبة السيدات في المجلس النيابي هي من أكثر العوامل التي تحدّ من الفساد (Melgar et al., 2010 ). بحسب بعض الدراسات، العملية الانتخابية التنافسية النزيهة والمنافسة داخل الحكومة تساعدان في الحد من الفساد. لكن الأهم هو أن نسبة أعلى من النساء في المناصب العليا في الإدارة والمجلس النيابي تُساعد في الحد من الفساد. أما على صعيد المؤسسات الاقتصادية، فإن اللامركزية تؤدي دوراً أساسياً في صنع القرار وبالتالي الحد من الفساد. فبحسب (Shleifer & Vishny 1993 ) كلما زاد تركيز السلطة داخل الحكومة زاد معها الفساد. مثلا على الصعيد الضريبي، تمّ إثبات أن مستوى التهرّب الضريبي يقلّ مع توسع اللامركزية.
الفساد في لبنان
كل العوامل الآنفة الذكر التي تُحفّز الفساد موجودة في لبنان. ونستغرب كيف وصلنا إلى هذا المستوى؟
فنظامنا القضائي في لبنان يخضع إلى العديد من الضغوطات التي تمنعه من العمل. فبين حرمانه حقه في انتخاب سلطاته العليا مرورا بتعيين جهازه الإداري وحرمانه استقلاليته المالية (صندوق التعاضد، الأجور) وصولا إلى التدخل في قرارته، يجد الفاسد في لبنان أن كلفة الفساد عليه أقلّ من كلفة العقاب وبالتالي تمّ ضرب الحصن الأول في محاربة الفساد. وماذا نقول عن التفتت العرقي واللغوي والسياسي في لبنان، فهذا الأمر يدفع كل حزب وكل توزيع اجتماعي إلى حماية الفساد القائم في بيته عملا بمبدأ الحفاظ على المجموعة. من هذا المُنطلق، أصبح لكل توزيع اجتماعي (ديني، حزبي…) مدارسه الخاصة التي اختفت من مناهجها دروس التأسيس على المواطنة الصالحة.
إقتصاديا ومع نسبة فقر 31.59% وتراجع النمو الإقتصادي والقدرة الشرائية للمواطن، شكّل الفساد بابا للخروج من الضيقة المالية. وهذا الواقع يتمّ استخدامه من قبل أصحاب نفوذ يرشون الموظفين العاملين في الدّولة لتمرير صفقاتهم وفسادهم. أيضًا لا يُمكن نسيان الخوّات التي يفرضها بعض الموظفين في الإدارة العامة والتي تُشكّل مدخولاً ريعياً يأتي ليزيد من ثروتهم المبنية على مال حرام مدعومين بمركزية مُطلقة تزيد من أسعار الريع.
وماذا نقول عن الاستقرار السياسي والمحاصصة التي تنهج في حياتنا العامّة حيث يصل الفاسد إلى منصب عال عملا بمبدأ «Le Passager Clandetsin » المعمول به في النظرية الاقتصادية. أما الذكورية المُهيمنة في لبنان فهي تمنع وصول المرأة إلى سدّة القرار حيث أثبتت التجارب في العديد من الدول مقاومتها للفساد والتي كانت بدون أدنى شكّ لتُطبّق اللامركزية الإدارية.
كلفة الفساد في لبنان
لقد كنّا أول من أعطى أرقامًا لكلفة الفساد في لبنان وذلك في كانون الثاني من العام 2015 حيث قدّرناه بـ عشرة مليارات دولار أميركية موزّعة بين خمسة مليارات خسائر مباشرة على خزينة الدوّلة وخمسة مليارات على شكل خسائر غير مباشرة أو ما يُعرف بغياب الفرص الاقتصادية.
الفساد هو نشاط سرّي حيث لا يقوم الفاسد بالتباهي بفساده بل يحفظه سرا من أجل استدامة أعماله. لذا يأتي تقدير الفساد ليُظهر مدى صعوبة إعطاء أرقام واقعية.
الحقيقة المُرّة أن كلفة الفساد الحقيقية لا أحد يعرفها وعندما نقول إنها عشرة مليار دولار أميركي، فإن هذا الرقم هو الحدّ الأدنى:
– التهرّب الضريبي قدرناه سابقًا ما بين 5 إلى 10% من الناتج المحلّي الإجمالي. واليوم ومع ظهور عدد من المُعطيات الجديدة (مثل المقالع والكسارات) ارتفعت هذه النسب إلى أكثر من 10% إلى 15% لتُصبح الكلفة بالدولار الأميركي ما بين 5.4 و8.1 مليار دولار أميركي. ويدخل ضمن التهرّب الضريبي: التهريب الجمركي، التخمين العقاري، الأملاك البحرية والنهرية، ضريبة الدخل، الضريبة على القيمة المضافة، المقالع والكسارات، مواقف السيارات…
– مستحقات الدوّلة لدى المواطنين من فواتير ورسوم غير مُجّباة ما بين 3.74 و4.5 مليار دولار أميركي وهي بمعظمها مُغطاة من قبل أصحاب نفوذ من القطاع العام أو القطاع الخاص.
– الكلفة على الدوّلة نتيجة التلاعب بالمناقصات، سرقة مداخيل الدوّلة من المعاملات… وقيمتها تتعدّى المليار دولار أميركي سنويا.
أمّا الهدر الذي هو نتاج سوء الإدارة ولا يدخل ضمن خانة الفساد، فتبلغ كلفته السنوية ما يزيد عن مليارين إلى ثلاثة مليارات دولار أميركي سنويا.
ليكون بذلك إجمالي كلفة الفساد والهدر المباشرة على الدوّلة ما يفوق الـ 13 مليار دولار أميركي.
إجراءات الموازنة غير كافية
إذًا مما سبق، نرى أن الإجراءات المُتخذة في مشروع موازنة العام 2019 هي إجراءات غير كافية لمواجهة آفة الفساد في لبنان. فالإجراءات الصحيحة هي التي تُعالج عوامل تحفيز الفساد وليس فقط النتائج. من هذا المُنطلق، نرى أن على مشروع موازنة العام 2020 أن يكون إصلاحياً بالفعل ويحتوي على إصلاحات في كل العوامل التي تمّ ذكرها أعلاه.