Beirut weather 14.41 ° C
تاريخ النشر May 30, 2020
A A A
أفول الدولار والضغط على لبنان: سياسة اليأس في الميزان
الكاتب: زياد حافظ - البناء

مكانة الدولار تتراجع في العالم ولذلك تداعيات سياسية هامة جدّاً. هيمنة الولايات المتحدة على العديد من الدول لا تعود بالضرورة إلى القوّة العسكرية التي تحب استعراضها من حين إلى حين وصولاً إلى شكل شبه يومي. فهذه القوّة ليست بالقدرة التي تتمنّاها الولايات المتحدة ولا بالجهوزية التي يمكن توظيفها في فرض هيمنتها. قوّتها الفعلية هي بالدولار والتحكّم بشرايين المال الدولية.
هدفنا في هذه المطالعة تشريح واقع الدولار في العالم، علماً أننا عرضناه سابقاً. لكن ما يهمّنا هو مدى تأثير التراجع على النفوذ الأميركي وما هي البدائل لنظام مالي دولي خارج الدولار. كنّا قد عرضنا سابقاً أسباب صعود الدولار منذ سبعينيات القرن الماضي بعد أن قطعت الولايات المتحدة علاقة الدولار بالذهب وبعد ارتفاع أسعار النفط والقرار بتسعير النفط ومن بعد ذلك كافة السلع الاستراتيجية بالدولار. فأصبح الطلب على الدولار شبه لا متناهٍ ما جعل الإدارات الأميركية تطبع بكل ارتياح ما تحتاجه من الدولار لتمويل نفقاتها الخارجية والداخلية في آن واحد من دون أي حساب. والدين العام المتراكم منذ ذلك الفترة شكّل مادة للسجال الداخلي من دون أن يؤدّي إلى إجراءات عملية لتخفيض الدين أو حتى محوه، وذلك بموافقة الحزبين الحاكمين اللذين تداولا في السلطة. فسندات الخزينة التي أصدرتها الإدارات الأميركية المتتالية تجسّد ذلك الدين وتتحوّل إلى نقد احتياطي لدى الدول الدائنة أو للمستثمرين. فلم يخطر على بال أحد أن الدولة الأميركية ممكن أن تقدم إلى الإفلاس.
لكن واقع الحال هي أن الدولة الأميركية في حالة إفلاس افتراضي قد يتحوّل إلى إفلاس حقيقي. فالدين العام وصل إلى أكثر من 25 تريليون دولار والحبل على الجرّار. فما زالت الإدارة الأميركية تعرض موازنات يزيد العجز فيها سنة بعد سنة والموازنة الأخيرة بلغ العجز فيها رقماً قياسياً بحوالي تريليون دولار. بالمقابل فإن الناتج الداخلي هو دون حجم الدين العام والفجوة بين الناتج الداخلي والدين العام تتفاقم سنة بعد سنة. صحيح أن نسبة الدين العام الأميركي للناتج الداخلي ما زالت بحدود 120 بالمئة مقارنة مع الدول الحليفة لها التي ما زالت منخفضة (فرنسا 96 بالمئة، المملكة المتحدة 89 بالمئة، وألمانيا 62 بالمئة). لكن أرقام الدين العام الأميركي بالمطلق مخيفة حيث نتحدّث بالتريليونات من الدولارات المتداولة في العالم لا يقابلها أي شيء يذكر. فسندات الخزينة قيمتها الورقية أكثر من قيمتها الفعلية وهذا أمر لا يمكن أن يستمرّ خاصة وان الثقة بالولايات المتحدة أصبحت شبه مفقودة عالمياً.
فجائحة الكورونا وجّهت ضربة قاصمة للاقتصاد الأميركي الذي تحوّل منذ السبعينيات من اقتصاد منتج للسلع إلى اقتصاد خدمات يطغى عليها طابع الريع خاصة فيما يتعلّق بالخدمات المالية. الولايات المتحدة تسيطر على شرايين المال عبر غرف المقاصاة المعروفة بـ “سويفت” حيث تستطيع مراقبة أي تعامل مالي في العالم وعبر فرض قوانينها للمراقبة على كافة المنظومة المصرفية المالية بحجة مكافحة تبييض الأموال وتجفيف مصادر تمويل ما تُسمّيه بالإرهاب. لكن بالمقابل نشاهد تزايداً في عدد الدول المتململة من الهيمنة الأميركية وبلطجية سلوكها مع حلفائها كما مع خصومها. وهذا التململ أدّى إلى التفكير الجدّي في خلق منظومة للمدفوعات المالية الدولية موازية على الأقل لتلك القائمة حالياً والتي يسيطر عليها الدولار.
من ضمن الإجراءات المتخّذة من دول وازنة في الاقتصاد العالمي الصين وروسيا اللتان أعادتا الاعتبار إلى التعامل بالعملات الوطنية في التبادل بينهما. وحجم التبادل يشمل صفقات ضخمة بمليارات الدولارات وعلى مدى فترات زمنية طويلة كعشرين وثلاثين سنة. وهذه الدول تشتري بشكل منتظم ومتزايد كمّيات من الذهب لجعل الاحتياط النقدي مرتكزاً إلى الذهب وخارج السيطرة الأميركية. في هذا السياق تفيد المعلومات أن حجم الاحتياط الذهبي في روسيا قارب 2،200 طن حتى آخر شهر آب/أغسطس 2019 بينما احتياط الذهب في الصين بلغ 1936 طناً، وذلك وفقاً لما أورده موقع “ماركيت واتش” في 19 أيلول/سبتمبر 2019. هذه الأرقام تزايدت في الفترة الأخيرة لكن ما يهمّنا هو إعطاء فكرة عن حجم الاحتياط وقيمته بالدولار. فاذا أخذنا سعر اليوم لأونصة الذهب أي 1700 دولار أو 54,400 دولار للكيلو (كل كيلو بمثابة 32 أونصة تقريباً) تصبح قيمة الاحتياط الذهبي حتى نهاية شهر أغسطس 2019 تقريباً حوالي 120 مليار دولار لروسيا و105 مليارات دولار للصين. والمعلومات تفيد أن الصين ما زالت تشتري المزيد من الذهب بينما خفّت نسبياً كمّيات الشراء في روسيا. رغم كل ذلك فإن نسبة الذهب في الاحتياط الصيني ما زالت متدنّية لا تتجاوز 3 بالمئة وفقاً لإحصاءات المجلس العالمي للذهب بينما تشكّل 20 بالمئة من الاحتياط الروسي. لا يجب أن يغيب عن البال أن لدى روسيا مناجم لاستخراج الذهب وهذا ما يجعلها قوّة لا يُستهان بها في التأثير على سوق الذهب. أما الصين فتتبع سياسة تدريجيّة للتخلّص من الدولار كعملة احتياط ما يؤكّد أن القناعة عند الصين كما عند روسيا أن الدولار إلى تراجع كبير في الهيمنة على المالية الدولية أن لم نقل إلى أفول.
إضافة إلى كل ذلك نشهد أيضاً في دول آسيا ودول أميركا اللاتينية تزايداً في المبادلات العينيّة كالنفط ومشتقاته مقابل المعادن الثمينة. والقرار الإيراني لكسر الحصار المفروض عليها وعلى فنزويلا بتزويد الأخيرة بالمشتقّات النفطية مقابل كمّيات من الذهب ومعدن الثوريوم النفيس والمطلوب في إنتاج الطاقة النووية خير دليل على ذلك التوجّه في التبادل.
من جهة أخرى أقدمت الصين على فتح باب تعاملها التجاري وفي أسواقها المالية مع دول آسيا وخاصة مجموعة آسيان التي تهيمن عليها الولايات المتحدة وذلك بالعملات الوطنية. هذا التبادل التجاري والمالي شكّل اختراقاً مع دول محسوبة على الولايات المتحدة كأستراليا ما أثار استياء الولايات المتحدة التي هدّدت قطع التعاون الاستخباري مع استراليا بسبب تنامي العلاقات مع الصين. فالتعامل بالعملات الوطنيّة يخفّف بشكل ملحوظ الطلب على الدولار. وإذا أضفنا إلى كل ذلك اعلان الصين عن إصدار عملة رقمية والتعامل بها، فهذا يشكّل تهديداً مباشراً لهيمنة الدولار كعمل ووحدة احتياط في العالم.
هذه التطوّرات أثارت مشاعر القلق في العديد من مراكز الأبحاث الأميركية كما في أروقة الإدارة الأميركية. وهذا القلق يصل إلى مرحلة الهلع وربما اليأس ما دفع بعض رموز النظام القائم للدفاع عن الدولار. ففي مقال مثير على الموقع الإلكتروني لمجلّة “فورين افيرز” كتب وزير المال السابق في الولاية الثانية للرئيس بوش هنري بولسن أن الخطر على الدولار لا يأتي من الصين بل من السياسات العبثية المتبعة في الولايات المتحدة، لكن دون أن يخوض في الأسباب الجوهرية التي أدّت إلى اتباع تلك السياسات عبر العقود الثلاثة الماضية. ففي العدد الصادر في 19 مايو 2020 يقول بولسن إن مستقبل وقوّة الدولار ليست في بكين بل في واشنطن من دون أن يحدّد كيف ولماذا؟ ويذهب في مقاله إلى التقليل من حجم الخطر الصيني مردّداً بعض الحجج الواهية كقدرة الصين ستظل محدودة اقتصادياً ما لم تنفتح على نظام اقتصاد السوق!؟ وكأن كل الإنجازات التي حققتها الصين خلال العقود الثلاثة الماضية لم تكن لتبرهن على نجاح النموذج الصيني في تحقيق أرقام قياسية سنوياً في النمو أو أنها أصبحت الدولة الصناعية الأولى في العالم. ناهيك ما أنجزته في التقدم في السباق التكنولوجي. وما الحرب الباردة التي أطلقها وزير الخارجية الصيني ردّاً على الإهانات والافتراءات الأميركيّة تجاه الصين إلاّ خير دليل على أن الصين قرّرت الرد بالندّية على تجاوزات الولايات المتحدة تجاهها.
فما هو تأثير تراجع دور الدولار عالمياً على الاقتصاد اللبناني؟ في المدى المتوسّط والبعيد، أي بين فترة تتراوح بين 3 و10 سنوات سيتراجع دور الدولار في الاقتصاد اللبناني. فعاجلاً أم آجلاً سيتجّه لبنان نحو الشرق في مشروع إحياء الاقتصاد اللبناني عبر التحوّل من اقتصاد خدمي ريعي إلى اقتصاد انتاجي بما فيه الخدمات ولكن صاحبة القيمة المضافة العالية. سرعة التوجّه تعود إلى مدى قناعة القيادات السياسية في لبنان من جدوى ذلك التوجّه أو بالأحرى من قدرة الطبقة الحاكمة من التحرّر من الهيمنة الأميركية على قرارها السياسي. ففيما يتعلّق بالعلاقات التجارية الخارجية فإن الصين هي المورّد الأكبر للبنان منذ سنوات عدة يليها الاتحاد الأوروبي بشكل عام اليونان وإيطاليا والمانيا بشكل خاص. وبالتالي الحاجة للدولار في التجارة الخارجية مع أهم مورّدي السلع التي يحتاجها لبنان ليست بالدرجة التي يظنّ الكثيرون.
من جهة أخرى ازداد الاستيراد للسلع الاستهلاكية بشكل ملحوظ خلال السنوات الثلاث الماضية إثر ارتفاع الفوائد على الودائع ما جعل حجم الريع يزداد ويُنفق على السلع الاستهلاكية. كما أن النازحين السوريين إلى لبنان ساهموا في زيادة الاستيراد. لذلك فإن عودة النازحين السوريين وانخفاض الفوائد سيساهمان في انخفاض الطلب على الدولار. وإذا ما اعتمدت الحكومة اللبنانية سياسة لتشجيع الاقتصاد الإنتاجي فإن الحاجة للاستيراد قد تنخفض خاصة في المواد الغذائية وقسم كبير من الملبوسات وهي سلع يمكن تغطيتها من الإنتاج الوطني. وهناك ملاحظة إضافية، ليس هناك من مبرّر لحمل الدولار عند المواطن اللبناني. فاعتماد الدولار في التبادل الداخلي الوطني يجب أن يكون مرفوضاً. ليس هناك من دولة في العالم تتعامل في تبادلاتها الداخلية بعملة غير عملتها الوطنية. فلماذا لبنان استثنائي؟ هناك من يعتقد أن سياسة حمل الدولار في لبنان سياسة معتمدة من قبل الحكومات المتتالية في حقبة الطائف لجعل الاقتصاد اللبناني منكشفاً على الخارج بشكل عام وتجاه الدولار بشكل خاص. فما هو مبرّر إصدار سندات للخزينة اللبنانية بالدولار في غياب أسباب اقتصادية مجدية كمشاريع تنموية على سبيل المثال إلاّ لتغذية السوق بالدولار وزيادة الانكشاف الاقتصادي تجاه الخارج؟ هذه السياسات كانت حمقاء في الحد الأدنى ومشبوهة كي نقول أكثر من ذلك في الحد الأقصى!
فلبنان يتعرّض لابتزاز ملحوظ من قبل الولايات المتحدة عبر سياساتها التي تستهدف لبنان لتجفيف موارد التمويل للاقتصاد اللبناني وعبر مؤسسات دولية ستفرض شروطاً تمسّ بسيادة لبنان على الصعيد السياسي والاقتصادي في آن واحد، وكل ذلك خدمة للكيان الصهيوني. هذه سياسة اليأس بامتياز حيث لم تعد تجد الولايات المتحدة أي “حجّة” لإرضاخ المقاومة في لبنان للمشيئة الأميركية والصهيونية. فالفشل العسكري والفشل الأمني عبر إشعال الفتنة الداخلية أفضى إلى سياسة التجويع التي هي اعتداء على شعب بأكمله وللأسف بأدوات محلّية. فالأزمة المفتعلة والمدروسة والمخطّط لها منذ عقود اتبعتها الحكومات المتتالية بدعم واضح من الطبقة السياسية الحاكمة أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم. فالشح في الدولار في السوق اللبناني يجب أن يتحوّل إلى فرصة للخروج من هيمنة الدولار بشكل نهائي وإلاّ لتحوّل الدولار إلى عبء على الاقتصاد اللبناني في المستقبل القريب في غياب سياسة اقتصادية داعمة للتحوّل إلى اقتصاد إنتاجي. فالاقتصاد الريعي الذي تمثّل بامتياز عبر الفوائد المرتفعة وغير الطبيعية وتثبيت سعر الصرف بعيداً عن أي اعتبار اقتصادي مجدٍ جعل من الدولار حصان طروادة لتجويع اللبنانيين كما نشهد هذه الأيام. التخلّي عن الدولار قدر الإمكان هو واجب وطني ليس فقط لحماية العملة الوطنية بل لحماية الأمن القومي اللبناني.
الاستراتيجية المعاكسة واضحة المعالم: إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني باتجاه اقتصاد إنتاجي، إعادة هيكلة الدين العام بشكل يلغي أو يخفّف بشكل ملحوظ خدمة الدين الذي هو أساساً غير شرعي بمعنى أنه لم يكن له أي مبرّر اقتصادي، وأخيراً إعادة هيكلة القطاع المصرفي. كما أن على لبنان أن يتوجّه شرقاً بدلاً من الغرب تجاه سورية والعراق والأردن أولاً وتجاه دول الإقليم ثانياً كالجمهورية الإسلامية في إيران وحتى تركيا بعد عودة الأمور إلى حالتها الطبيعية مع سورية، وثالثاً إلى المحور الاوراسي والطريق الواحد والحزام الواحد الذي تعرضه الصين.