Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر January 18, 2025
A A A
أزمة الودائع في لبنان: حقوق ضائعة بين السياسة والقوانين
الكاتب: محمد فحيلي - النهار

الحرص على أموال المودعين وحمايتها أو سدادها كانت إحدى النقاط الأساسية التي ذكرها الرئيس الجنرال جوزف عون في خطاب القسم الذي شكل، بإعتراف الجميع، خريطة طريق يجب اعتمادها، إقتصادياً وسياسياً، في هذه الجمهورية الجديدة. وكررها وشدد عليها أيضاً رئيس السلطة السياسية في الجمهورية العربية السورية السيد أحمد الشرع، مع التركيز على ودائع المواطنين السوريين المحتجزة في المصارف اللبنانية.

الودائع المصرفية في لبنان: حقوق وقوانين

تخضع الودائع المصرفية في لبنان لقوانين عدة، أبرزها قانون السرية المصرفية، وهي من دون أدنى شك ملكية خاصة لأصحابها. لا يمكن المساس بها من القضاء أو أي سلطة أخرى إلا في حال ثبوت جرم موثق بوقائع ومستندات ضد صاحب الحساب.
تعدّ هذه القاعدة أساساً لأي إطار قانوني يعنى بمعالجة الأزمات المصرفية. والتمييز بين الحسابات المرتبطة بجرائم مثل غسيل الأموال وتمويل الإرهاب يعزز صدقية النظام المصرفي ويحمي الحقوق الفردية، ما يساهم في بناء الثقة بالقطاع. أما الحسابات المصرفية ولاسيما منها المكونة بالعملة الأجنبية، ففي حال ثبوت وجود جرم موثق، يجب اتخاذ خطوات تتضمن رفع السرية المصرفية وتجميد الأرصدة، ووضع يد السلطة الرقابية عليها، مع التزام عدم المساس بحقوق المودعين الشرعيين. هذه الإجراءات تخضع لآليات واضحة تتوافق مع القوانين النافذة و تعاميم مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاصة.

 

الودائع المصرفية هي ملكية فردية لا يحق لأحد المطالبة بها أو التصرف فيها إلا صاحب الحق الاقتصادي، شرط ألا يكون صاحب الحساب متهماً بأي من الجرائم الـ21 المدرجة في القانون 44/2015، أو أن يكون هناك قرار قضائي بالحجز على الحساب. أو في الحالات التي يكون فيها صاحب الحساب مدرجاً على قوائم العقوبات الدولية، مثل:

● الخزينة الأميركية (OFAC)،

● السوق الأوروبية (EU, e-CTFSL)،

● دول مجلس التعاون الخليجي (GCC)،

عندها يتوجب تقديم مستندات موثقة لإثبات وجود العقوبات، ورفع طلب إلى مصرف لبنان مرفقاً بالمستندات اللازمة، للمطالبة برفع السرية المصرفية عن الحساب وتجميده، وتحويل القضية إلى هيئة التحقيق الخاصة أو القضاء المختص، وفي الإجراءات:

● يتم تحويل الطلب إلى الدائرة القانونية في مصرف لبنان للتحقق من الادعاء.

● بعد التأكد من صحة الادعاء، يُصدر كتاب إلى جميع المصارف العاملة في لبنان يطالبها بإبلاغ هيئة التحقيق الخاصة عن وجود الحسابات المذكورة وتجميد الأرصدة فوراً.

● تقوم الدائرة القانونية في كل مصرف بمراجعة الطلب والمستندات المرفقة، قبل إحالته على مديرية العمليات المصرفية، للإجابة على طلب مصرف لبنان والتحقق من وجود الحسابات.

 

الأزمة المصرفية في لبنان: بين الحقوق الفردية والأزمة النظامية

في حال عدم وجود أي جرم موثق، يحق لصاحب الحساب، بغض النظر عن جنسيته (لبناني، سوري أو فرنسي أو …)، المطالبة بأمواله كاملة. هذا الحق مستقل تماماً عن جنسية الدولة التي ينتمي إليها المودع ولا يخضع لتأثير السلطة السياسية في الدولة التي يوجد فيها المصرف. وفي حال رفض المصرف الاستجابة لطلبات السحب، تتدخل الجهات المختصة، مثل القضاء، مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، لضمان استرداد حقوق المودعين من دون تمييز على أساس الجنسية.

تجدر الإشارة إلى أن الأزمة المالية التي يعاني منها لبنان منذ تشرين الأول 2019 ليست أزمة فردية تخص مودعاً أو مصرفاً بعينه فحسب، بل هي أزمة نظامية شاملة أثرت على جميع المصارف والمودعين على حد سواء. وعلى رغم اعتراف المصارف بوجود الحسابات والأرصدة بالعملة الأجنبية، فإن نقص السيولة منعها من تلبية طلبات السحب أو إجراء التحويلات إلى الخارج. هذا الامتناع لم يكن ناتجاً من سوء نية أو قرار فردي للمصارف، بل هو انعكاس لانهيار نظامي بدأ مع فقدان المودعين الثقة بصدقية الطبقة السياسية الحاكمة. وقد أدى ذلك إلى حالة من الهلع دفعت المودعين إلى التهافت على سحب ودائعهم (Run on Deposits) في منتصف تشرين الاول 2019. وهذه هي بعض المحطات الرئيسية في تفاقم الأزمة:

التوقف عن خدمة الدين العام (مارس 2020). جاء إعلان حكومة الدكتور حسان دياب التوقف عن سداد الدين العام ليزيد الوضع سوءاً، إذ أدى هذا القرار إلى إدراج لبنان ضمن قائمة الكيانات المتعثرة (Restricted Default)، مما أضر بسمعة البلاد المالية وأدى إلى تفاقم الأزمة المصرفية.

إهدار احتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية. خلال السنوات التي تلت هذا التعثر غير المنظم، استُنزف احتياط مصرف لبنان في دعم الدولار لتمويل نفقات الفساد التي استفادت منها الطبقة السياسية وزبائنها، والاستيراد المفرط وغير المنضبط. هذا الإهدار كان يمكن أن يُستخدم لتخفيف تداعيات الأزمة لو أُدير بعناية، خصوصاً في ظل رفض السلطات إقرار القوانين والإصلاحات اللازمة لمعالجة الأزمة بشكل جذري.

إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF). جاء هذا الإدراج نتيجة سنوات من الكساد المتعمد، وغياب أي إصلاحات جادة لإنقاذ لبنان، وطناً ومواطناً، من أزمته المتفاقمة. يشير إدراج لبنان على اللائحة الرمادية إلى ضعف التزامه معايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، مما زاد من عزلة النظام المالي اللبناني وأضعف قدرته على التفاعل مع النظام المصرفي العالمي. هذا الإدراج شكل ضغطاً إضافياً على القطاع المصرفي من خلال تعقيد العلاقات المصرفية الدولية، وتقليص الثقة بقدرة لبنان على إدارة أزماته المالية بفعالية.

الأزمة المصرفية في لبنان ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات من سوء الإدارة المالية والسياسية. يتطلب الخروج من هذا المأزق اعتماد إصلاحات هيكلية، تشمل إعادة بناء الثقة بالنظام المالي، وتطبيق آليات واضحة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية بما يضمن حقوق المودعين ويعزز استقرار النظام المصرفي.

 

دور السلطة في تأمين الإطار القانوني

السلطة مسؤولة عن توفير إطار قانوني وتنظيمي لتسهيل المطالبة بالحقوق الفردية، بغض النظر عن جنسية صاحب الحساب أو مكان إقامته. لتحقيق ذلك، يتطلب الأمر:

إعادة الانتظام إلى القطاع المصرفي، لتعزيز ديناميكية العمل المصرفي. من الضروري العودة إلى اعتماد وسائل الدفع المتوافرة والمعتمدة من القطاع المصرفي (شيكات، بطاقات دفع و إئتمان، وتحويل) في التبادل التجاري في الداخل اللبناني والابتعاد عن الأوراق النقدية. هذا يتطلب إطلاق عجلة ترميم وإعادة الثقة بين المصارف التجارية ومكونات المجتمع اللبناني من أفراد ومؤسسات.

سداد الودائع لجميع المودعين من خلال آليات منظّمة قد تشمل تصنيف الودائع إلى شرعية (مؤهلة) وغير شرعية (غير مؤهلة) بناءً على معايير واضحة ومعترف بها دولياً، واقتراح برنامج جدولة السداد وفق ما هو متاح من سيولة لكل مصرف على حدة. مع ضرورة لفت النظر إلى أن المكان الطبيعي لهذه الأموال هو الحسابات المصرفية، وهذا ما يتوافق مع المنطق الاقتصادي، وعلى المصارف والسلطة طمأنة المودعين على أموالهم وتأمين الوصول إليها وفق آلية تبدأ بتحويل فواتير الاستهلاك والطباعة والتعليم. ومن ثم بعد ضمان تعافي هذه المصارف، تعود السحوبات إلى ما كانت عليه قبل الأزمة وتشمل تمويل شراء أصول وقروض مصرفية طويلة الأجل.

يبقى لصاحب الحساب الحق المطلق في الامتثال لأي آلية سداد تضمن استرداد أمواله. غير أن الواقع يشير إلى أن عشوائية التعامل مع تعاميم مصرف لبنان الأساسية (151، 158، 166)، التي أتاحت سحوبات استثنائية بالدولار المحلي، عكست غياب خطة واضحة لمعالجة الأزمة.

 

الأزمة المصرفية التي بدأت في تشرين الأول 2019 شملت جميع المصارف والمودعين من دون استثناء. هذا الوضع يستدعي استجابة منظمة تحقق التوازن بين حقوق الأفراد ومسؤوليات المؤسسات المصرفية. إذا يتطلب الحل تصنيف الودائع إلى شرعية وغير شرعية، كما تم اقتراحه من خلال عمشاريع قوانين عدة كانت قد تقدمت بها حكومة الرئيس ميقاتي، يجب أن يكون التصنيف مبنياً على معايير واضحة، مع إلزام المصارف تطبيق قوانين “إعرف عميلك” بصرامة. أي تقاعس في تنفيذ هذه القوانين يضع المصارف في دائرة المسؤولية غير المباشرة عن الجرائم المرتبطة بالأموال المشبوهة.

 

الدور المطلوب من السلطة السياسية

تتحمل السلطة السياسية مسؤولية توفير الإطار القانوني اللازم لإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتنظيم آليات حل الأزمة. وفي ما خص ودائع المواطنين السوريين في المصارف اللبنانية، المطلوب من السلطات السياسية في البلدين التشاور والتفاهم في الواقع الذي تسبب بهذه النتائج والحلول الممكنة حتى تعود هذه الحلول بالمنفعة على جميع الأطراف. يشمل ذلك إقرار قوانين جديدة تضمن الشفافية في إدارة الأزمة تعيد الإنتظام للقطاع المالي، وإعادة هيكلة مصرف لبنان ورسملته وتعزيز دوره الرقابي على المصارف التجارية.

قد تستطيع السلطة صاحبة الإختصاص أن تتوصل إلى حل لأزمة الودائع والمودعين، ولكن هذا لا يضمن بالضرورة عودة الثقة إلى ربوع القطاع المصرفي. إستعادة الثقة تتطلب جهداً جدياً من كل مكونات المجتمع اللبناني من أفراد ومؤسسات القطاع العام والخاص للوصول إلى:

● التزام خارطة الطريق التي وضعتها مجموعة العمل المالي (FATF) لإخراج لبنان من اللائحة الرمادية للدول المتعاونة جزئياً في تطبيق إجراءات مكافحة تبيض الأموال وتمويل الإرهاب.

● إطلاق مفاوضات مع الدائنين الدوليين لإعادة هيكلة الديون السيادية الخارجية (يورو بوند) وجدولتها.

● تعزيز دور مصرف لبنان عبر إعادة رسملته وإعادة صياغة قانون النقد والتسليف للتأسيس إلمرحلة جديدة تمنع تكرار حدوث الأزمة التي ضربت لبنان المصرفي والمالي خلال السنوات الماضية.

 

ختاماً، إن الأزمة المصرفية التي يواجهها لبنان هي نتاج تعقيدات متشابكة بين سوء الإدارة السياسية والانهيار النظامي الذي طاول المؤسسات المالية. وفيما تحاول بعض مكونات الطبقة السياسية في لبنان وسوريا الضغط للمطالبة بأموال المودعين المحتجزة في المصارف اللبنانية، يبقى التمييز بين الودائع النظيفة والودائع الملوثة بجرائم مثل غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، هو الأساس لأي معالجة قانونية أو اقتصادية للأزمة. فالودائع النظيفة، المحمية بالقوانين الوطنية والدولية، هي حقوق فردية مشروعة لا يمكن المساس بها أو التصرف بها إلا بموافقة أصحابها. أما الودائع المرتبطة بجرائم موثقة، فتخضع لإجراءات قانونية صارمة تشمل رفع السرية المصرفية وتجميد الأرصدة، بما يتماشى مع المعايير الدولية وأحكام القضاء.

الحل المستدام للأزمة يتطلب من السلطة السياسية تجاوز المصالح الضيقة واعتماد إصلاحات شاملة تعيد بناء الثقة بالقطاع المصرفي، مع ضمان حماية حقوق المودعين كافة، بغض النظر عن جنسياتهم، من خلال آليات شفافة وفعّالة. فقط عبر هذا المسار يمكن للبنان أن يستعيد استقراره المالي ويحمي نظامه المصرفي من التلاعب والانهيار.

 

إصلاح القطاع المالي اللبناني هو ورشة عمل كبيرة قد تكون مؤلمة، لكنها ضرورية لإنقاذ البلاد وضمان تعافيها، بما يمهد الطريق لتحقيق نمو اقتصادي مستدام.