Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر October 8, 2016
A A A
أحرار الشام و جند الأقصى: الفتنة «الجهادية» في نسختها الثانية
الكاتب: عبدالله سليمان علي - السفير

نسخةٌ ثانية من «الفتنة الجهادية» أصبحت جاهزةً لاقتحام المشهد السوري بكلّ تعقيداته وامتداداته الإقليمية والدولية. «جند الأقصى» في مواجهة «أحرار الشام» وفق سيناريو يكادُ يكون مطابقاً لما جرى مع تنظيم «داعش» قبل حوالي ثلاث سنوات. وبينما يُرجَّح أن تترك هذه المواجهة تداعياتٍ مباشرة على معركتي حماه وحلب مع الجيش السوري، تتجهُ التقديرات إلى أن تُرخي بظِلالها أيضاً على كامل المشهد في الشمال السوري، خاصةً في ظلّ حدة الاستقطاب الجارية في المنطقة، وذلك وسط تباينٍ واضح في مواقف الفصائل الأخرى بين محرضٍ على الاقتتال من أجل التخلص من مشروع «داعشي» مرتقب، وبين مطالب بالتهدئة، للتفرغ لقتال الجيش السوري.

وكما كان مقتل «أبو ريان»، القيادي في «أحرار الشام»، أواخر العام 2013 في تل أبيض، الشرارةَ الأولى لاندلاع الموجة الأولى من القتال ضد تنظيم «داعش» في مسكنة في ريف حلب الشرقي، يبدو أن مقتل «أبو طالب» (جمعة هواش)، القيادي في الحركة، الخميس الماضي، في خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي، سيكونُ الشرارةَ الأولى للقتال ضد «جند الأقصى»، واضعاً الساحة «الجهادية» أمام امتحان عسير قد لا يقلُّ صعوبةً عن الامتحان الذي واجهته مع تنظيم «داعش»، وتركَ ندوباً عميقة على جسدها لم تُشفَ منها حتى الآن.

حملةٌ عادية من الاعتقالات المتبادلة بين الطرفين شهدتها بلدتا سرمين وسراقب، الأسبوع الماضي، كانت كافيةً على ما يبدو بعد تراكمات كثيرة حصلت بين الطرفين طوال العام الماضي، لتكون القشّةََ التي تقصمُ ظهرَ البعير، وتؤدّي إلى اندلاع الاقتتال بينهما.
بدايةً كانت جولةُ القتال الأولى في خان شيخون، لكن الشرارة سرعان ما تطايرت معلنةً عن جولات أخرى في مناطق كثيرة، منها معرّة النعمان ومعرة زيتا والحامدية وجرجناز وسرمدا والمسطومة، لتبدو محافظة إدلب وكأنها استحالت إلى مسرح مواجهةٍ شاملة بين الطرفين. وتشيرُ التحشيدات المتبادلة والمؤازرات التي يستقدمُها كلُّ طرفٍ لتقوية صفوفه ضد الطرف الآخر، إلى إمكان استمرار القتال وانتقاله إلى مدن أخرى، في مشهدٍ يُذكّر ببدايات القتال ضد تنظيم «داعش»، والذي أخذَ منحىً تصعيدياً بعد مقتل أبي خالد السوري بداية العام 2014.

لكنّ الاعتقالات المتبادلة ليست سوى السبب الظاهر لاندلاع الاقتتال، أما السبب الحقيقي فهو مخاوف «أحرار الشام» من اتجاه «الجند» لإنشاء إمارةٍ خاصة بهم في ريف حماه الشمالي، ومن ثم التواصل مع «دولة داعش» في الريف الشرقي، ما سيكون له تداعيات خطيرة على الحركة وعلى باقي الفصائل ومجمل الساحة السورية، وهو ما اشارت إليه «السفير» في تقريرٍ سابق، وأكدته البيانات الصادرة عن الطرفين، حيث ربط بيان صادر عن «جند الأقصى» بين تصاعد استفزازات «أحرار الشام» وبين معركة حماه، مشيراً إلى أنه «لا يُفهم من ذلك إلا محاولة تعطيل المعركة وإيقافها». وهددّ البيان بأنه في حال تفاقمت الأمور «فإننا قد نضطر لإيقاف غزوة مروان حديد والتوجه لحماية أنفسنا». وجاء هذا البيان رداً على بيان اصدرته «أحرار الشام» اتهمت فيه «الجند» بـ «الدعشنة»، وأمهلته 24 ساعة لإطلاق سراح معتقليها.

وكانت «أحرار الشام» قد اعتقلت، الاربعاء، خليةً من «جند الأقصى» ادّعت أنها مرتبطة مع تنظيم «داعش»، فما كان من «الجند» إلا مداهمة منزل علي العيسى القيادي في «أحرار الشام» ورئيس دوريات أمن الطرق المسؤول عن اعتقال الخلية التابعة لها، وأطلقت النار على بعض أفراد عائلته، مصطحبةً إياه إلى بلدة سرمين التي تعتبر معقلها الأساسي في إدلب.

وقبل انقضاء موعد المهلة، سارع «جند الأقصى»، يوم الخميس، لتنفيذ هجوم استباقي على بعض حواجز «أحرار الشام» في مدينة خان شيخون، حيث سقط بسبب الاشتباكات «جمعة هاروش» أبو طالب، القيادي في الحركة والمسؤول عن الحواجز في المنطقة، الأمر الذي أخرج الأمور عن السيطرة، وشكلّ نقطة اللاعودة بينهما، كما شكلّ مقتل أبي ريان نقطة اللاعودة بخصوص تنظيم «داعش». وقد استمرت الاشتباكات طوال ليل الخميس ـ الجمعة، حيث وردت أنباء عن سيطرة «الجند» على كامل المدينة الواقعة في ريف إدلب الجنوبي المتاخم لمناطق سيطرته في ريف حماه الشمالي. ويبدو أن اختيار خان شيخون لتكون نقطة البدء في الاقتتال جاء على خلفية تفجير أطمة الذي سقط جراءه العشرات من «فيلق الشام» و «أحرار الشام»، قسمٌ كبير منهم من أبناء المدينة، حيث خشي «الجند»، المتّهم بمساعدة «داعش» في تنفيذ التفجير، من تصاعد الاحتجاجات ضده في المدينة، بعدما تعالت الهتافات بإسقاطه في جنازات قتلى التفجير.

وعلى وقع تصاعد الأحداث وتقدم جماعة «الجند» في خان شيخون، لم تستطع بعض الرؤوس الحامية في «أحرار الشام»، وخصوصاً من التيار المناهض لـ «القاعدة»، إلا اتخاذ قرار سريع بإرسال الحشود والمؤازرات إلى المناطق المحاذية لمناطق الاشتباكات، وسط حديثٍ عن نية بعض قادة الحركة الاستمرار في الحملة حتى «إبادة جند الأقصى» وقطع دابرهم. ولم يكن مستغرباً أن تُكلَّف بمهمة القتال ضد «جند الأقصى» مجموعاتٌ كبيرة من «القوة المركزية في أحرار الشام» بقيادة محمد منير المعروف بلقب دبوس الغاب، إذ الأخير من القادة المعروفين بعدائهم لتنظيم «القاعدة»، كما أن «القوة المركزية» جرى إنشاؤها وإعدادها لتكون بعيدة عن تأثير بعض القادة العسكريين المتعاطفين مع «القاعدة». ولا تنسى «أحرار الشام» أن المئات من عناصرها رفضوا المشاركة في القتال ضد تنظيم «داعش» بذريعة «إخوة المنهج»، فالأحرى ألا يشاركوا في القتال ضد «جند الأقصى» الذي ما زال يشترك معهم في مجلس شورى إدارة مدينة إدلب، لذلك كان اختيار «القوة المركزية» بهدف تجاوز هذه العقبات.

وما هي إلا ساعات معدودة، حتى انتشر القتال بين الطرفين في غالبية مناطق ريف إدلب، ليتكشف المشهد عن صورةٍ واضحة تشي بوجود قرار حازم من «أحرار الشام» بمحاربة «جند الأقصى» وطرده من جميع مقاره في المحافظة. وبالرغم من الفوضى الكبيرة وحالة التوتر التي سادت بسبب الاشتباكات المتنقلة، إلا أن مساعي التوسط بين الطرفين لم تتوقف.

وفيما أعلن ستة عشر فصيلا في بيان مشترك وقوفهم الى جانب «احرار الشام» ضد «جند الأقصى»، أهمها «فيلق الشام» و «جيش المجاهدين» و «فاستقم» و «جيش الاسلام» و «الجبهة الشامية»، كانت فصائل أخرى على رأسها «جبهة النصرة» تتخذ موقف الحياد، محاولةً الحفاظ على المساعي المبذولة للتوسط بين الطرفين، وذلك بالرغم من أن مجموعات غير منضبطة تابعةً لها شاركت كل مجموعة منها بالقتال إلى جانب طرف. ومن المتوقع أن تميل مواقف غالبية الفصائل إلى جانب «أحرار الشام»، نظراً لما تُمثلّه من ثقلٍ عسكري كبير بينها. ويبقى التساؤل عن موقف «داعش» من هذه الاشتباكات، وفي ما إذا كان سيقدم الدعم إلى «الجند»، لا سيما أن الأخير أعلن في بيانه حول الأحداث تبرؤه من عقيدة التنظيم وغُلّوه.

وتشير المعلومات الأولية إلى تقدم «جند الأقصى» في مناطق الاشتباكات الواقعة في ريف إدلب الجنوبي القريب من ريف حماه الشمالي، مثل معرزيتا وكفر سجنة، التي قُتل فيها عشرة عناصر من «أحرار الشام»، في ظل ادعاءات بأنهم تعرضوا لإعدام ميداني، فيما تتقدم الأخيرة في المناطق الأبعد من الريف الجنوبي، مثل حيش وجرجناز والمعرة والحامدية والمسطومة، وتلك الواقعة في الريف الشمالي، حيث وردت أنباء عن قيام «جند الأقصى» بتسليم معاقلهم في بلدة سرمدا القريبة من الحدود التركية من دون قتال، فيما سيطرت الحركة على كل من طعوم، تفتناز، معارة النعسان، كفر حلب، أفس، في حين ذكرت مصادر إعلامية معارضة أن بلدات بنش وسراقب وسرمين في الريف الشرقي تسودُها حالةٌ من التوتر والاحتقان نتيجة الاشتباكات الدائرة. وبعدما سيطر «الجند» على بلدة البارة، حشدت «الأحرار» أعداداً ضخمة من مقاتليها لشنّ هجوم معاكس خلال ساعات.

وسط هذه الأجواء المشحونة، أكدت مصادر إعلامية أن «الاقتتال قد انتقلَ إلى بعضِ المناطق في ريف حماه الشمالي»، مؤكداً «أن الجند قاموا بالهجوم على مركز للأحرار في قرية الطليسية التي سيطرت عليها مؤخراً من يد الجيش السوري، وقُتِل جرّاء الهجوم كل من أبو حسن دبابات وأبو نذير طبية من أحرار الشام».

ويبدو أن تداعيات النسخة الثانية من «الفتنة الجهادية»، ومدى اتساعها وعمقِها، ستكون متوقفةً على مدى قدرة «أحرار الشام» على حسم المعركة بسرعة لمصلحتها، لأن الحسم السريع سيُجنب الساحة «الجهادية» الكثير من التداعيات السلبية بالنسبة لها. أما طول مدة القتال، فسوف يكون في مصلحة «جند الأقصى» ومشروعه الخاص. كما أن ذلك سيؤثر في قدرة الفصائل على خوض المعارك في حلب وحماه ضد الجيش السوري بسبب تشتت قواتها على أكثر من جبهة متداخلة، وهو ما قد يَفسحُ المجال أمام تقدم مساعي الصلح على أصوات الرصاص.