Beirut weather 18.54 ° C
تاريخ النشر December 8, 2024
A A A
أجراس العودة: بين حلم فيروز وجرح لبنان النازف
الكاتب: زياد رامز خازن - جريدة النهار

حين صدحت فيروز: ” الآنَ، الآنَ وليس غداً، أجراسُ العودة فلتُقرَعْ”، كانت كلماتها تغرس الأمل في قلب أمة أحلامها معلّقة بين سماء المجد وأرض الواقع الأليم. لكن نزار قباني، بنبرته الجارحة، واجه هذا الحلم بحقيقة قاسية، متسائلًا:
“مِن أينَ العَودةُ يا فيروز؟
والعَودةُ تحتاجُ لمدفع،
والمدفعُ يلزمُه كفٌّ،
والكفُّ يحتاجُ لإصبع،
والإصبعُ مُلتذٌ لاهٍ،
في سُرُر اللهو له مرتع؟”
بهذه الأبيات، فضح نزار واقعًا عربيًا ينزف بين الشعارات الفارغة وغياب الأفعال، حيث المصالح الخاصة تغلب الواجب القومي، والأصوات الداعية للتغيير تضيع في صخب اللاجدوى.
مرت السنوات، وجاء تميم البرغوثي ليزيد على هذا المشهد ألماً، معترفاً بمرارة واقعه:
“عفواً فيروز ونزار، فإن كان زمانكما بشعاً، فزماننا هو الأفظع.”
هكذا تحولت القضية الفلسطينية، التي كانت رمزاً للوحدة العربية، إلى ورقة تفاوضية تُباع في أسواق السياسة الدولية، وسط قيادات غارقة في خنوعها.
منذ نكبة 1948، كان لبنان في مقدمة الدول التي إحتضنت القضية الفلسطينية، مقدماً الأرض والشعب والموارد، بدءاً من إستضافة اللاجئين تزامناً مع إتفاقية الهدنة 1949، مروراً بإتفاق القاهرة 1969 الذي سمح للفصائل الفلسطينية بالعمل الفدائي من لبنان. لكن هذه المواقف، رغم نبلها، كانت لها تداعيات ثقيلة على الداخل اللبناني، خاصة مع تفجر الحرب الأهلية عام 1975، حيث اختلطت القضية الفلسطينية بالصراع اللبناني الداخلي.
ومع إجتياح 1982، كانت بيروت شاهدة على أفظع الجرائم الإسرائيلية، وتكبد لبنان خسائر جسيمة. وظل لبنان يدفع الثمن باهظًا حتى حرب الإسناد 2023، ثم عدوان أيلول 2024 الذي زاد من معاناة الشعب اللبناني.
على مدار هذه العقود، بقي لبنان البلد العربي الوحيد الذي تحمل عبء القضية الفلسطينية، في وقت تنصلت فيه معظم الدول العربية من مسؤولياتها. واليوم، في ظل أزمات اقتصادية وسياسية خانقة، بات على لبنان أن يعيد حساباته بحيث لم يعد بإمكانه أن يحمل أعباءً إضافية على حساب إستقراره.
هذه الدعوة لإعادة ترتيب الأولويات ليست جديدة على لبنان. ففي عام 1974، وقف الرئيس الراحل سليمان فرنجيه في الأمم المتحدة مدافعاً عن القضية الفلسطينية باسم واحد وعشرين دولة عربية. كان موقفه واضحاً: الدفاع عن الحق الفلسطيني دون المساس بسيادة لبنان. الرئيس فرنجيه هو نفسه من رفض حينها مقولة “طريق فلسطين تمر بجونية”، وأدان الأعمال الفدائية التي إنطلقت من لبنان وجرَّت عليه الويلات.
اليوم، لا يعني الحديث عن تقديم المصلحة الوطنية أن يتخلى لبنان عن قيمه أو دعمه للحق الفلسطيني. لكن إستمراره في حمل الأعباء وحده لم يعد ممكناً. آن الأوان لأن يقرع لبنان أجراس إنقاذ نفسه قبل أن ينشغل بهموم الآخرين.
كما قال نزار: “أجراسُ العَودة لن تُقرَع” ما دامت الأمة عاجزة عن مواجهة ضعفها. لكن لبنان يستطيع أن يقرع أجراس نهوضه، إذا وضع مصلحته الوطنية فوق أي إعتبارات، وسعى لبناء دولة قوية تحفظ كرامة أبنائها أولاً، ثم تساند القضايا العادلة من موقع القوة، لا من موقع الضعف والإنهيار.
فلنجعل أجراس لبنان تُقرع، ولكن هذه المرة لإنقاذ الوطن، ليكون قادراً على تقديم العون من دون أن يدفع الثمن وحده.