أضاءت منظّمة اليونيسكو على مسألة “اللّغة العربيّة والتّواصل الحضاريّ” في صلب احتفاليّة “اليوم العالمي للّغة العربيّة” لهذه السنة، في 18 كانون الأول من العام 2021.
كشفت المنظّمة في معلوماتها الأخيرة أنّ 420 مليون شخص يتحدّثون اللّغة العربيّة يومياً في مختلف أنحاء العالم، وهي بالممارسة اليوميّة تشكّل دعامةً للتنوّع الثقافيّ على امتداد الحضارات واختلاف الشّعوب.
لكن العالم العربيّ والمجتمعات الناطقة بالعربية ينضوون ضمن المجتمع العالميّ، حيث تتعاظم الرقمنة ووسائل التعبير الافتراضيّة، الّتي تغيّر نمط الحوار بين الشعوب وتنعكس على لغاتها. والعربية، إحدى اللغات الأكثر تداولاً في العالم، ليست بمنأى عن هذا التحوّل.
على صعيد لبنان، يُضيف الخبراء إلى مسألة التطوّر الرقميّ العامّ تراجعَ قطاع التربية واللغات خصوصاً، وارتباطها بمشكلات عضويّة، فضلاً عن الأزمة المستجدّة، ما يدعو لإعادة النّظر بالتهديدات المحيطة باللغة العربية في لبنان، وجوداً وجودةً.
تتناول “النهار” المسألة المطروحة مع اختصاصيّين متمرّسين بالعربية، برزوا في الإعلام، والشّعر، والأدب، والنّقد، والتّرجمة، والتّعليم والبحوث الأكاديميّة، والسؤال: كيف نستطيع صون اللغة العربية الفصحى، وجعلها في الوقت نفسه متوافقة مع متطلّبات المشهد اللغويّ المتغيّر؟
الشاعر والمترجم والكاتب بول شاوول: “الشباب واللغة والآلة الجحيميّة”
اللغة العربيّة الفصحى لم تعرف أزمة مصيريّة كالتي تعيشها اليوم في عالمنا العربي.
تراجعت العربية في المدارس والجامعات، وتحديداً في الصّحافة كما في وسائل الإعلام المرئية كالتلفزيون، والمسموعة كالراديو. وهي تُجلَد يومياً، وفي كلّ دقيقة، في وسائل التواصل الاجتماعي.
إنّها مُحاصرة بمن يحقّرونها في بعض العائلات اللبنانية. يتكلّمون مع أولادهم بالفرنسية أو الإنكليزية، ويُبدون احتقارهم للّغة العربية.
في مجال الصّحافة، كانت الصّحافة اللبنانية كنيسة اللغة العربية، لأنها كانت متمسّكة بأصولها وقواعدها وتعابيرها. أما اليوم، نجد في الجرائد اليومية اللبنانية والعربية أخطاء لغويّة فادحة في مانشيتات الصفحة الأولى، على نحو “الدول الثلاث الأكبر عوضاً عن الكبرى”. نقرأ بعض المقالات، وبالأخصّ للجيل الجديد، فنكتشف أخطاء لغويّة لم تُصحّح.
أمّا الطامة الكبرى، فتقع في التلفزيون من ناحية بعض قارئي الأخبار الذين يرتكبون أخطاء لغويّة فاضحة. والأدهى من ذلك أنّ بعض المثقّفين والصّحافيين الذين يشاركون في الندوات إمّا يتكلّمون بالعامية، والكارثة عندما يتكلّمون بالفحصى.
وزعماؤنا الأميّون، معظهم لا يعبّرون عن أفكارهم على التلفزيون سوى بالعامية أو الفصحى المكسّرة. وأظنّ أنّ معظم السياسيين في لبنان لا يقرؤون في الجرائد إلا تصريحاتهم، ولم يقرؤوا كتاباً واحداً.
ونصل إلى الخلويّ الذي يكشف مستوى الجيل الجديد في علاقته مع اللغة: احتقار، تشويه، أخطاء. استبدل هذا الجيل الكتاب بالخلويّ، ووجد ثقافته كلّها في هذه الآلة الجهنّمية. انحطاط لغويّ وسياسيّ مرعب، نلمسه بكلّ أسف لدى هذا الجيل.
في يوم اللغة العربية، ينبغي مراجعة كلّ هذا الواقع من قبل الكتّاب والشّعراء والمؤسّسات التّعليميّة، وإيجاد طرق لإنماء هذا الاتّجاه التعبيريّ.
اللغة هي الجزء الأساسي من هويّتنا ومن وسائل التعبير الأدبي والفكري. مطلوب خطّة كبيرة وصارمة من المؤسّسات التربويّة لكيفية تقريب اللغة العربية منّا إلى أطفال والشباب. كأنّما يرون في احتقارها وإهمالها نوعاً من الجهل المقدّس!
أخشى القول إنّ جيل الكتّاب والشعراء الجدد يحتاجون إلى تعلّم اللغة العربيّة والكتابة بشكل صحيح. من غير المسموح لشاعر أو لروائيّ أن يُخطىء في اللغة العربية. هذه بديهيات. اللغة أداة، فإذا أخطأت باستعمالها، فبماذا تكتب؟
طبعاً، نضيف أنّ تراجع الثقافة بشكل عموميّ والأفكار بشكل خصوصيّ ينعكس على اللّغة العربيّة نفسها.
لبنان تعيش حياته السياسية خصوصاً بدون أفكار. على صعيد الأحزاب والتيارات والزعماء، ليس لدى هؤلاء ما يُسمّى أفكاراً، لأنهم استعاضوا عنها بالطائفيّة.
أطرح سؤالاً: إذا انتفت الطائفيّة بمعجزة، فما عند هذه الأحزاب والزعامات من بديل؟ لا شيء.
الطائفية نفسها عنصر أساسيّ في تجهيل الناس، إعطاب الثقافة والعقل والانفتاح والفضول إلى معرفة الذات والآخر. ولأنّ الطائفيّ يظنّ أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة، فهو إذاً ليس بحاجة إلى تعلّم أيّ شيء خارج عقله الفارغ.
بدلاً من أن يقدّسوا اللغة العربيّة، يقدّس اللّبنانيّون زعماءهم الأميّين، تعبيراً في اللغة وغياباً في الأفكار.
الباحث والأكاديمي والشاعر أمين ألبرت الريحاني: “لغات عربيّة وواجب التجديد”
الموضوع مهمّ، خاصة لدينا في لبنان وفي العالم العربي. المسألة ليست مسألة يوم يُخصّص للّغة العربية وكأنها لغة مُعاقة، وربّما هي كذلك!
نحن لا نهتمّ بلغتنا إلا إذا خصّصنا لها يوماً احتفاليّاً فولكلورياً باهتاً بل فارغاً لا معنى له. أمّا في أيّام السنة الباقية فننسى اللغة، وننسى أن تخلّفها يكمن وراء كلّ تخلّف آخر يتبعها ويلحق بها. فتخلّفنا السياسي ناتج عن تخلّف لغتنا العربية، وتخلّفنا الفلسفي ناتج عن تخلّف لغتنا العربية، وتخلّفنا الاقتصادي والصناعي ناتج عن تخلّفنا اللغوي؛ وكذلك تخلّفنا الاجتماعيّ والثقافيّ والإعلاميّ ناتج عن تخلّفنا اللّغويّ.
أضرب مثلاً بسيطاً وسطحيّاً، ولكنه واضح الدلالة: نتحدّث عن حرب اليمن وكثيراً ما تأتي الأخبار على ذكر مدينة الحُدَيدَة. معظم نشرات الأخبار تلفظ اسم هذه المدينة بتحريكٍ خاطىء، ولا أحد يكلّف نفسه عناء لفظها بالتحريك الصحيح أي بالحاء المضمومة والدال المفتوحة الأولى والثانية. هذا المثل يحمل دلالة الإهمال اللغويّ، وارتقاء الخطأ من دون اعتماد الدقّة اللغوية.
مثلٌ آخر سياسيّ: اعتماد مصطلح متناقض هو “الديمقراطية التوافقية”، الديمقراطية أصل يقوم على تباين الرأي، وإذا تحوّل التباين إلى توافق حول مسألة من المسائل فلا حاجة بعدئذٍ إلى التوافق إلا إذا عنينا به المعنى البغيض والمتخلّف “المحاصصة”. أما في الأدب والفلسفة فألمسالة أكبر وأوسع. هي مسألة سلوك فكريّ تُجاه اللغة؛ وهذا السلوك يختصر بعدم مواكبتنا اللغويّة للعصر. نظرة سريعة إلى معاجمنا الحديثة نجد أنها لم تتجاوز “محيط المحيط”.
يوم صدر كتابي “لغات عربيّة” قامت قيامة العالم العربي عليّ لأنني اعتبرت اللّغة العربيّة مجموعة لغات، هي لغات القبائل العربيّة، وليست اللغة العربية الفصحى الواحدة البليغة والحديثة. هذه الصّفات إن لم تكن مجتمعة، عبثاً نحاول. وأبرز ما نُهمل في تلك الصفات صفة الحداثة. وهنا لا أقصد الحداثة الشعرية وحسب بل أعني الحداثة الفلسفية والحداثة الأدبية والحداثة النقدية والحداثة الدينية والحداثة التاريخية، إلى جانب الحداثة العلمية. وكلّ واحدة من هذه الأفعولات اللغويّة ضروريّة ليس بالتنظير فقط بل بالممارسة أيضاً. والسؤال الذي طرحته يومذاك بوجه القيامة التي قامت بوجهي، ما يزال قائماً وصحيحاً حتى اليوم: لماذا لا يحقّ لعرب القرن العشرين أو الواحد والعشرين ما يحقّ لعرب القرن العاشر؟ فلنفعل، في تجديدنا اللغوي، مثلما فعلوا، في حين أن علينا أن نفعل فوق ما فعلوا.
الشاعر والناقد شوقي بزيع: “لغة قريبة إلى الحياة”
أنا أعتقد بأن اللغة كالهوية تماماً، هي ليست وجوداً مطلقاً، ومصمّماً بشكل مسبق. ولكنها وجود يظلّ أبداً قيد الإنجاز وقيد التحقّق. واللّغة العربية كغيرها، لا بدّ لكي تتطوّر من أن تكون موجودة في قلب العصر، وفي قلب الحياة من جهة أخرى.
ولا يُمكن للغة أن تكون في قلب العصر ما لم يكن أهلها والناطقون بها في قلب هذا العصر. لذلك نرى أنّ اللغة لا تستطيع أن تجاري لغات العالم الأخرى، ما دمنا نستورد من الآخرين الأشياء وأسماءها في وقت واحد. وأعني بالأشياء هنا، كلّ أشكال التكنولوجيا والصناعات المعاصرة ووسائل الحياة الحديثة. هذه المشكلة يصعب تجاورها إلا بعد أن تنخرط الأمّة بحدّ ذاتها في قلب هذا العصر؛ والأمر مستبعد في المدى المنظور.
في الجانب الآخر، نرى أنّ هناك شرخاً بين اللّغة العربيّة الفصحى، أي لغة المكتوب ولغة الأدب والإعلام الرسمي، وبين اللّغة المنطوقة. هذا الشرخ أيضاً يعبّر عن مأزق حقيقيّ بالنسبة لدارسي اللّغة العربيّة الذين يجدون أنّ ما يدرسونه مختلف تماماً عمّا ينطقون به. وأعتقد أنّ تضييق هذا الشّرخ يعود إلى وسائل التعليم وإلى التربية، إذ يُمكن للّغة ألّا تعتمد على النّحو والصّرف والقواعد الذهنيّة المجرّدة، وهي مسألة في غاية الصعوبة لأنها تُقدّم في إطار نظريّ، بل أن تعتمد على النصوص المكتوبة، بخاصّة النّصوص الإبداعية القابلة للتأويل والطالعة من قلب الحياة؛ وهذا يعني في ما يعنيه أن توضع في المناهج المدرسيّة النصوص الحديثة المتآلفة مع العصر، وأن نخرج من دائرة النصوص المعجميّة والنصوص الواقعة في التقعّر والتكلّف والتوليد الذهنيّ الصّرف.
من جهة أخرى، يمكن أيضاً تضييق الشّرخ من خلال وسائل الإعلام التي تهتمّ بالبرامج الثقافيّة الملائمة من خلال الصّحافة. وأعتقد أن الدور الذي لعبته الصحافة في هذا المجال دورٌ رياديٌّ منذ القرن التاسع عشر حتى الآن. ولم تكن اللغة العربية لتصل إلى ما وصلت إليه لولا الصحافة التي تتغذّى من الحياة اليومية ومن المفردات ذات الطابع الملموس. وطبعاً، الحاجة هي أمّ الاختراع. فهي تعتمد التوليد الذهنيّ واللغويّ لأنها تحتاج إلى ذلك.
وحتى مع تراجع الصحافة المكتوبة، أنا أرى أن وسائل التواصل الاجتماعي بالرّغم من سلبيّاتها الكثيرة، تساهم في تطوير اللغة لأنها تقرّبها من الحياة، ولأن هذه الجيوش الجرّارة، ممن يدّعون الشّعر أو الأدب، لا يملكون بالمقابل سوى أن يحسّنوا لغاتهم، لكي لا يخرجوا بمظهر المتأتىء والعاجز والركيك. ولذلك، نرى أن هناك أفقاً مفتوحاً أمام تطوّر اللغة، بالرغم من كلّ ما يشوب وسائل التواصل من عيوب وسلبيّات.
يبقى القول أخيراً بأن المعنيّين بتطوّر اللغة هم الأدباء والمبدعون وليس النّحاة. كما يقول بعض المفكّرين اللغةُ أخطر من أن تُترك في عهدة الأكاديميين والنّحاة، والدالّ على ذلك بأنّ الدور الذي لعبه جبران خليل جبران قبل مئة عام ونيّف، كان دوراً ريادياً في نقل اللغة العربية من طور إلى طور. ونحن بحاجة إلى أكثر من جبران لكي يعود إلى هذه اللغة نبضها وخفقانها وحيويّتها المطلوبة.
الإعلاميّ بسّام براك: “اختلفت مهامّ الصحافيّين”
اللغة العربية حُلّت وحلّت بالدرجة الثانية.
طالما اهتمام وسائلنا الإعلاميّة منصبّ على شؤون الـ”لااقتصاد” والانهيار والسياسية، ونشرات الأخبار تهتمّ بالبداية والانطلاقة بتأمين المواضيع وتعقّب الخلافات السياسية، فإن اللغة العربية لم يعد لها مكان في الصناعة الإعلامية؛ هي إذاً لم يعد لها مكانة.
اللّغة العربيّة مقصيّة بل سقطت في هذا المجال. قد نجد ضمن الخبر خطأً واحداً، لكن هذا الخطأ في الفاعل والمفعول به، ولم نصل بعدُ إلى المصادر، وهل تُرفع الكلمة أو تُنصب؟
والسبب الأساس برأيي هو أنّ الإعلامييّن باتوا غير مرتبطين بتاتاً بمسؤوليّة التحرير أو اللّغة العربيّة ونشرات الأخبار، في حين كانوا يجمعون بين الخبر واللّغة في الوقت نفسه.
المطلوب علناً من هؤلاء، محرّرين ومراسلين، كتابة الخبر ونشره سريعاً، وذلك في إطار التسابق عبر مختلف منصّات الإنترنت مع المؤسّسات الأخرى لنشر الخبر ضمن هذا المجال المتسارع. الاهتمام بلغة الخبر هزيلٌ جداً المقارنة بالاهتمام بسرعة نشره والتراكض إلى المعلومة. حتى استخدامات الكلمات لم تعد بالمضامين المتوقّعة جمالياً.
وهنا، لا أقصد المذيعين ممّن كانوا أساتذة أو زملائ لي منذ زمن، بل أقصد الآتين الجدد، خصوصاً أنّ سائر المؤسّسات الإعلاميّة لا نجد فيها مشرفاً على اللغة العربية. فمن سيُراقب الآتين من الجامعات حديثاً، وهي خلال التعلّم من بعد لم تعد تولي اللغة أهمّية واسعة؟
وعلى مستوى المسؤولين السياسيّين، هم ليسوا متمكّنين من اللّغة العربيّة وجلّهم على الشاشات غير قادرين على تلاوة الفصحى السليمة، باستثناء شخصين أو ثلاثة من الطاقم الحالي.
نتذكّر أنّنا خسرنا حلقات الإملاء عبر الشاشة لأنها كانت تحثّ بعض الزملاء والشخصيات وسائر الناس ليختبروا مستواهم في اللغة العربية.
وأستعرض هنا تجربتي في مسابقة “إملاؤنا لغتنا” التي لاحظت من خلالها تدنّي مستوى اللغة العربيّة سنةً بعد أخرى، إن استثنينا قلّةً تُشارك لأنها واثقة بقدرتها، فهناك من كان يُخفي الورقة ولا يسلّمها.
توقّفنا عن الإملاء بسبب “كورونا” الصعبة وأولوية الشاشة خلال هذه الأزمة المستعصية، ونطمح خلال الفصل المقبل ربّما إلى تنظيم مسابقة إملاء جديدة موضوعها انتشار كورونا والقطاع الطبيّ. لكن شعوري ممزوج بخوف، وفي سؤاله من سيكتب إملاءً هذه المرة بعد إهمال اللّغة العربيّة إلى هذا الحدّ؟
أتمنّى لو يعود إلى الإعلام الثقة بالذات ودورات اللّغات التي كنّا نعدّها لتحسين مهارات الإعلاميين الجدد. لمسنا أنّ هذه الدورات من شأنها رفع مستوى اللّغة لنسبة قد تصل إلى خمسين في المئة، وهذا يشكّل تقدّماً جيّداً في اللّغة العربيّة.
الصحافية والأكاديميّة سوسن الأبطح: “التعليم والحواجز النفسيّة”
الإشكاليّة مركّبة. وعمقها لا يرتبط باللغة نفسها، بل يبدأ بالتعليم ولا ينتهي بالهوية والنظرة إلى الذات والوعي بالوجود وقيمة العرب بالنسبة إلى الأمم الأخرى.
نحن نخرّج جيلاً لا يستطيع أن يعلّم اللغة. الأمر مريرٌ ومبكٍ. برأي إحدى طالباتي في مرحلة الماستر أنّ المواد الحضاريّة التي نعلّمها في الجامعة لا لزوم لها، ويجب أن نحصر التركيز بالإملاء والخطّ لأنّهم يتخرّجون مع خطّ سيّئ، ولا يكتبون لغة صحيحة. ونحن نعلم أنّ هذه المهارات يجب أن تُكتَسب في المدرسة. نتساءل اليوم، كيف نستطيع ردم الفجوة المرتبطة بأسس اللغة في ساعات التعليم القليلة في الجامعة؟
أولاً: يبدو أنّ المنهج التعليميّ يشكو مشكلة كبيرة. ضعف طلابنا الجامعيين في اللّغة لا يقتصر فقط على القدرة التعبيريّة، بل يعانون صعوبات في التمييز بين التاء المربوطة والمفتوحة، وصرف المفعول به والفاعل، فضلاً عن تراكيب غير مفهومة.
ثانياً: يعتري الطالب إحساس بانتقاله من العامية إلى الفصحى كأنه انتقل من لغة إلى أخرى. المبدأ بحدّ ذاته مغلوط. لو تعلّم الطالب منذ البداية أنّ العامية متفرّعة من الفصحى لحافظنا على الشعور بأنّنا ضمن لغة واحدة وتقلّصت الأخطاء.
ثالثاً: أساتذة اللّغة العربيّة هم جزء كبير من المشكلة، بسبب تعليم قواعد اللغة بطرق نظريّة وتجريديّة وبعيدة من التّطبيق. لكن التعليم النظريّ لا يُمكن أن يؤدّي الغاية. الحلّ الوحيد يتمثّل بالقراءة والمداومة على القراءة وتكيّف القراءات المحرّكة وجعل الفصحى سليقة عند المتحدّثين بها.
نحن بحاجة إلى خطّة جديدة لتعليم اللغة العربية في المدارس، لتصبح لغة حيّة في مختلف الاختصاصات فيقرأ التلميذ ما لا يُحصى من النصوص في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، ويُراكم العدد الأكبر من المصطلحات والكلمات. وفي ضوء أنّنا لا نعلّم العلوم باللغة العربية، صدرت حديثاً دراسة من مؤسّسة الفكر العربي مفادها أنّ العلوم ستبقى حكراً على النّخبة التي اكتسبت اللّغة الأجنبيّة، فيصبح المتخصّصون (أطباء، اقتصاديون…) غير قادرين على التواصل مع عامّة الناس بهدف التوعية والمشاركة بأفكاره سواء بطريقة مباشرة أو بنقلها في الكتابة الصحافيّة.
قد تكون الصحافة هي المكان الوحيد والأخير اليوم الذي تُستخدم فيه اللّغة العربيّة بشكل مرن ويوميّ، وتولّد كلمات وتعابير وأساليب جديدة وهي بمتناول عامة الناس.
إلى جانب التعليم، أعتقد أنّ مشكلة لغتنا الكبرى تكمن في العائق النفسيّ والمعنويّ. وأعني به نظرة الفرد العربيّ إلى نفسه، وهل هو كإنسان يُوازي الآخرين أم يشعر بدونيّة أمام الأمم والشّعوب الأخرى، ما يدفعه إلى التعبير عن نفسه باللغات الأجنبية عفوأ أو عمدأ، ويتمسّك بأيّ لغة أجنبيّة متباهياً بأنه لا يتقن العربيّة. وعلى عكس ما يخيّل للبعض، أثبتت التجربة أنّ هذا الفرد لن يتقن اللّغة العربيّة كما أنّه لن يتقن اللّغة الأجنبيّة.
عدّة دراسات لحظت أن الأطفال المهاجرين العرب الذين لا يتعلّمون اللّغة العربيّة هم أكثر عرضة للانحراف والكآبة والعنف، لأنهم لا يتحسّسون وجود الذات ولا الهوية المتكاملة. تيقّظت فرنسا لهذه الحقيقة باكراً، وقرّرت تعليم العربيّة للمهاجرين. وبالرغم من ذلك، هناك عرب لا يتقبّلون تعلّم العربيّة في مدارس فرنسا بسبب إحساسهم بالدونيّة أمام الآخر المختلف.