Beirut weather 24.65 ° C
تاريخ النشر June 11, 2024
A A A
كَابَدوا الموت، فاستحقوا الحياة
الكاتب: رشيد درباس

كتب الوزير السابق رشيد درباس في جريدة “النهار”

اليوم صبر… وغدًا فخر
مثل عربي
امتلأت الشهور الفائتة بالأحداث التي ستكون لها آثارها الواضحة على مستقبل الشرق الأوسط ولبنان. انطلقت الشرارة بغتة كانفجار البركان الرابض فوق حِمَمِهِ، ففاجأ الملأ بقوته، ولم يفاجىء أحدًا بأسبابه، على ما ذهب إليه الأمين العالم للأمم المتحدة (أنطونيو غوتيرس) في خطابه في مجلس الأمن غداة السابع من تشرين الأول إذ قال: لقد سُدَّتْ السبل في وجه الفلسطينيين، وَانتُهِكَت الحقوق واستشرى الاستيطان، واضمحلَّت احتمالات الحُلول السياسية، فلماذا تستغربون انفجارهم؟ يومذاك جنَّ جنون المندوب الإسرائيلي، وطالب بإقالته بزعم معاداته للسامية. لم تقصر إسرائيل في ردود فعلها، بل حسبت الأمر فرصة سانحة للتخفف من أكثر مليون فلسطيني بتدمير مدنهم ومساكنهم ومستشفياتهم وبناهم التحتية، مستعيدةً أساليب المجازر بصورة أكثر توحشًا، ظنًّا منها أن (سيناء) تتسع لهم بما يعيد إلى البنية الديمغرافية المتداخلة توازنًا مريحًا. لكن ما سعى إليه (نتنياهو) ارتد عليه بعد أن بالغ في تعلية سقف الأهداف، فما كسب إلا سخط الدنيا على ما سفكه من دم وراكمه من جثث. جوبه بتشبت أهل غزة بأرضهم التي تحصنوا تحتها وفوقها، وتوسدوا ترابها، واستولدوا من نجومها كهرباء صمودهم، ونور رؤيتهم.

ومن غريب هذا الصمود أنه مستمر، رغم أن القوى الفلسطينية على الساحة ليست على وفاق ولا تنسيق، بل هي على العكس تمامًا، وهذا يستدعي تخطي القشور الخلافية، حتى لا تُدَوَّنَ الدماء المهراقة، مجددًا، في سجل الفرص الضائعة أو المُضَيِّعة.

من يتابع المعارضة الإسرائيلية يجد أنها تعيب على الحكومة تمسكها بالانتصار المطلق على حساب الانتصار الكافي، وهذا ينطبق أيضًا على الحالة الفلسطينية التي آن لها ولنا الخروج من إسار الخطاب التقليدي، لأن إسرائيل، إذا كانت كيانًا مزعومًا، فهو مبني على دولة متينة لها أنظمتها الحديثة، ولها جيش تطور من حالة العصابات إلى قوات نظامية في الخدمة والاحتياط، بل هو امتدادٌ للجيش الأمريكي تسليحًا وتصنيعًا للسلاح وتدريبًا، مع عقيدة قتالية موروثة منذ النكبة، قائمة على أن “الأغيار” حِلٌّ لهم مالاً وبشرًا وأَجِنَّةً في الأرحام، كما ورد في سفر (أشعياء).

وعلى هذا، استنتجت أن كل فلسطيني على تعاقب الأجيال، يتمتع بحسٍّ استراتيجي يتفوق على سياسات منظماته، لأن سرَّه يكمن في أمرين جوهريين، الأول تخصيب الأرض الفلسطينية بالأنسال المالكة لها، والثاني دفع ضريبة البقاء دماء وتشريدًا وتنكيد عيش والتحامًا بالتراب والتضاريس، وهذا هو المأزق الصهيوني المزمن الذي لا يأمن إلى المستقبل المحكوم بوتيرة الإنجاب وعناد البقاء الفلسطيني. ولذلك تخشى إسرائيل حل الدولتين، بل تخشى فكرة السلام، لأنها دولة حرب، “فَبِنْتُ صهيون قَرْنُها من حديد وأظْلافُها من نحاس لتسحق شعوبًا كثيرين” كما جاء في سفر ميخا (4/12).

يقتضي الإنصاف القول أن ما قامت به (حماس) في السابع من تشرين الأول 2023، لا يقاس الآن بحجم المأساة الغزواية، ولا بمقدار الخسائر التي أصابت الضفة ولبنان والممرات البحرية، فهذا أمر يمكن تأجيل البحث فيه للتركيز على ما أسفر عنه الصمود في الحرب العدوانية من نتائج مهمة، إن لم نُحْسَنِ استثمارها بصورة عاقلة وحصيفة حقت علينا آثار الخيبة المتكررة. ونحن لو أردنا أن نزور قبور شهدائنا، مقاتلين وأطفالاً ونساء، فلا لكي نضع الآس عليها، لأن آس الدنيا لا يكفيها، بل لنقدم لها بعد قراءة الفاتحة كشف حساب، من بنوده أن جنوب أفريقيا استدعت إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية ثم انضمت إليها تشيلي من جنوب أميريكا، وأن هذه المحكمة أصدرت قرارات ذات قرائن ودلالات، وأن دول مجلس الأمن ذهبت للاعتراف بالدولة الفلسطينية لولا النقض الأميركي، وكذلك أوصت الجمعية العمومية، إضافة إلى ميل دول الاتحاد الأوروبي للاعتراف، على غرار ما فعلت إيرلندا وأسبانيا والنروج وسلوفينيا، وأن الرئيس بايدن في سباق معركته الانتخابية خصص وقتاً مستفيضاً ليعلن للإسرائيلين أن انتصارهم مستحيل، فهذه القراءات كفيلة بِبَلِّ تربتهم، وإسعاد أرواحهم.

إن قيام دولة فلسطينية معترف بها دوليًّا، هو أول حد للمشروع التوسعي الاستيطاني، وضمان بقاء أهلها في أرضهم في إطار برامج ملموسة تستفيد من حيوية هذا الشعب، وتجاربه المريرة والغنية، وثقافته وانتشار قضيته في الضمائر، بل إن قيام هذه الدولة هو خط الدفاع الأول عن مصر ولبنان والأردن وسوريا من محاولات القضم، ومناورات وضع اليد.

في فيلم قديم ليوسف شاهين اسمه (اسكندرية ليه) يقول الممثل العظيم يوسف وهبي، على لسان أحد اليهود المستنيرين، إن اكتشاف البترول العربي، يدفع أميركا الآن لتأسيس دولة يهودية قوية، لضمان السيطرة على المنطقة، تأمينًا لمصالحها المستقبلية. هكذا شكلت إسرائيل قاعدة عدوانية متقدمة لتلك المصالح، لكن المفارقة الآن، أن “الأيقونة المدبَّبة” التي طعن الغرب بها قلب الأمة تعسفًا، تتحول الآن، بسبب نزوعها الهمجي نحو إلغاء كلمة فلسطين من التاريخ والجغرافيا، إلى عنصر لإقلاق الراحة الأوروبية واستهجان الشعوب، وامتعاض الولايات المتحدة من قيادة يأخذها غرورها إلى التمرد على سيد البيت الأبيض. وعلى هذا فإن تعمد الرئيس الأميركي إعلان تفاصيل العرض الإسرائيلي كان القصد منه تضييق هامش المناورة على (نتنياهو)، وإحراج اليمين المتطرف حتى لا تُسْتَغَلَّ الوحشية الإسرائيلية ضده في معركته الحرجة ضد خصمه (ترامب) الذي يعاني بدوره من إدانته بتهم جنائية.

ربما كان أهم ما في الموضوع أن (حركة حماس) لم تتأخر بالرد الإيجابي، حتى تفوت على إسرائيل فرصة التراجع، وحبذا لو جاءت هذه الإيجابية مشتركة ما بين منظمة التحرير وحماس معاً، لكان ذلك مدعاة لمزيد من الهيبة الفلسطينية التي لا بد منها للانتقال إلى حل الدولة الفلسطينية المستقلة.

كانت فلسطين ولم تزل جرحًا عربيًّا قائمًاً، وقلق الحاضر والمستقبل، أفما يحق لها ولنا الآن أن تجني ونجني معها ثمار تضحياتها وبقائها على هويتها طول ثلاثة أرباع القرن؟ أولا يحق لحفدة الشهداء أن يقيموا لجدودهم نُصُبًا في جوار الأقصى والقيامة تخليدًا للبطولة، وتأكيدًا على أن موتهم لم يكن إلا حُبًّا بالحياة؟ لقد أدلت (حماس) ببطولتها التي ليست إلا خلاصة الخلاصة لهذا الشعب الذي صنفه الكاتب الإسرائيلي (آري شافيت) بأنه أعند شعب في التاريخ.

أما المشروع الاستيطاني التهجيري فلا يواجَه إلا بمشروع حضاري متمادٍ، يتلمس طريقه بوسيلة جمع الفلسطينيين في كيان كامل الأوصاف والمواصفات، يكون مهد تنمية وتطور، وصاحب دور في ركب الحضارة، فلقد ارتوت الأرض من الدماء بما يكفيها لقرون قادمة، وآن لها الاستسقاء من الأنهر وماء السماء، وللبيارات أن تنتج برتقالها، وتبث أريجها المبارك من مهد المسيح وأولى القبلتين، بل آن للإنسانية أن تستفيد من عظمة هذا الشعب الفلسطيني وعبقريته.

لقد فرضت فلسطين عروبتها دائمًا على إخوتها العرب، وأثبتت على مر السنين أنها ليست قاصرًا لكي تحق عليها الوصاية، وليست عاقرًا تُخَصَّبُ بالتهجين، بل ها هي بكامل رونقها ودمارها وقبورها، تنطق بالفصحى الواعية، وتقف بالمرصاد لمناوارات العدو الذي سيستغل أية فرصة للتنصل مما أُجْبِرَ على التعهد به، لأن المزاج الإسرائيلي العام ما زال على نزوعه لإنجاز نصر مستحيل.

أمام هذه التطوات الخطيرة، نجد الجبهة اللبنانية موضوعة في ذيل جدول الأعمال، بل إن هناك توجسًا محقًّا من أن تقوم الآلة العسكرية الغاضبة بعدوان واسع على لبنان، تعويضًا عن خيبتها الغزاوية الفلسطينية؛ فعلينا إذًا ألا نستخف بنباح “بن غفير” وأمثاله، لأن لبنان ما زال محط أحقاد إسرائيل وقادتِها العسكريين الذين يجهرون بأنهم يجرون مناوارات لشن حرب شاملة تؤدي إلى تدمير البنى التحتية حتى إحراق العاصمة بيروت، كما جاء على ألسنة بعض الوزراء والضباط.

قطعًا لا يجوز لنا أن نخرج هذه الاحتمالات من حساباتنا، ولا أن يصل الشقاق السياسي بيننا إلى هذا الحد الخطير فنبدو “كأهل الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء”، يترَّبص بعضٌ ببعض تَرَبُّص الذَّبَّاح بالذَّبيح، فيما جزار عكا الجديد يطلق العنان لطائراته في سوريا ولبنان، ويختار أهدافه، ويعد العدة لما هو أدهى. لقد فقدت اسرائيل أمان الحدود الشمالية، وعانى سكانها الهجرة غير المسبوقة فوغَر صدرُها، وتمادى حقدها إلى الحد الذي يوجب علينا، من أجل المجابهة، الالتزام بالحد الأدنى من التعقل، والنزول عن صهوات المنابر، ذلك أن لبنان الجغرافي مرهون البقاء للبنان السياسي الذي يلوحون لنا بزواله. أما نحن الذين دفعنا بحورًا وأنهرًا وأمطارًا من دماء أجيالِنا، فنلوح لهم بثباتنا على أرض كانت حدودها خطوط حراسة الحرية والانفتاح والتنوع والوحدة.