Beirut weather 21.41 ° C
تاريخ النشر November 1, 2025
A A A
اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين
الكاتب: المحامي عمر زين - اللواء

في اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين نقف وقفةَ ضميرٍ ومسؤولية أمام واحدةٍ من أخطر الظواهر التي تهدّد العدالة والحرية في آنٍ واحد: استهداف الكلمة الحرّة، وتكميم الحقيقة، وإفلات الجناة من المساءلة.
إنّ الصحافة ليست مهنةً عادية، بل هي سلطةٌ أخلاقية وقانونية تمارس باسم الرأي العام، وركيزةٌ من ركائز المجتمع الديمقراطي، ودرعٌ يحمي حرية الإنسان في الوصول إلى المعلومة ومساءلة السلطة، والدفاع عنها هو دفاعٌ عن الحق في المعرفة وعن حرية الإنسان في أن يسمع ويعبّر ويكشف. غير أنّ واقعنا الدولي والعربي يكشف عن مفارقة مؤلمة: فبينما تعترف المواثيق الدولية – وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية – بحرية الرأي والتعبير كحقّ أساسي، ما زال المئات من الصحفيين حول العالم يُقتلون أو يُعتقلون أو يُهدَّدون دون أن يُقدَّم الجناة إلى العدالة. هذه الرسالة النبيلة أصبحت هدفاً مباشراً للعنف والتهديد والقتل، في ظلّ تراجع المنظومات القانونية، وضعف الإرادة السياسية، وتواطؤ الصمت.

وقد اعتمدت الأمم المتحدة هذا اليوم، الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر، تخليداً لذكرى اغتيال الصحفيين الفرنسيين في مالي عام 2013، ودعماً للقرار رقم 68/163 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي يُلزم الدول باتخاذ تدابير واضحة لمكافحة الإفلات من العقاب وضمان التحقيقات الفعّالة في الجرائم ضد الصحفيين. كما أكّد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الحق في حرية الرأي والتعبير بوصفه حقاً لا يمكن المساس به.
ويُسجّل العالم العربي نصيباً مؤسفاً من هذه الانتهاكات، حيث باتت ساحات الصراع، ومناطق الاحتلال، وفي مقدمتها فلسطين، وحتى بعض الأنظمة، مسرحاً لإسكات الحقيقة باسم الأمن أو الاستقرار. في حين يُفترض أن تكون العدالة هي الملاذ، نرى في كثير من الحالات مؤسسات العدالة نفسها عاجزة أو مترددة في ملاحقة الفاعلين، إمّا تحت الضغط السياسي أو بفعل ضعف المنظومات القانونية. ومع ذلك، تصبح هذه المناسبة دعوةً لتكريس ثقافة المساءلة، وإصلاح التشريعات الوطنية بما يتوافق مع الالتزامات الدولية. فالإفلات من العقاب ليس انتهاكاً لحقّ الصحفي فحسب، بل جريمة ضد المجتمع بأسره، وضد الحق الجماعي في المعرفة. إنّنا، كمحامين ومدافعين عن حقوق الإنسان، نحمل واجباً مضاعفاً: الدفاع عن حرية الصحافة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الحق في العدالة والكرامة، والمطالبة بآليات قضائية مستقلة وفعّالة تضمن محاسبة كلّ من تورّط في إسكات صوت الحقيقة، أياً كانت صفته أو موقعه.

وأني أؤمن أن إنهاء الإفلات من العقاب ليس شعاراً، بل هو مسارٌ قانوني وأخلاقي يتطلّب إرادة سياسية وتشريعية وقضائية متكاملة. فالمحاسبة لا تقتصر على إدانة الفاعل المباشر، بل تمتد إلى كشف منظومات الصمت والتواطؤ التي تحيط بالجريمة. إنّ العدالة التي تتأخّر أو تُقيّد، تُفقد معناها، وتتحوّل من ضمانةٍ إلى غطاءٍ للإفلات. ولعلّ ما نحتاج إليه اليوم هو مقاربة عربية مشتركة تُعلي من شأن حماية الصحفيين، وتُدرج الجرائم ضدهم ضمن خانة الجرائم الخطيرة التي لا تسقط بالتقادم، مع إنشاء آليات وطنية وإقليمية للتحقيق والمساءلة، وتوفير الحماية القانونية للصحفيين والناشطين والإعلاميين.
إنّ إحياء هذا اليوم لا يكون بالبيانات وحدها، بل بتفعيل الإرادة القانونية والإنسانية التي تُعيد الاعتبار للضحايا وتضع حدًّا لثقافة الخوف والصمت. ولن يتحقق ذلك ما لم نؤمن جميعاً أن حرية الصحافة ليست امتيازاً يمنحه الحاكم، بل حقًّا يكفله القانون ويصونه الضمير. إن إحياء هذا اليوم يجب ألا يقتصر على الكلمات، بل أن يتحوّل إلى التزامٍ عمليٍّ بحماية الكلمة الحرّة، وضمان ألا يبقى دم الصحفيين بلا عدالة، ولا تبقى الحقيقة رهينة الخوف.
العدالة للصحفيين، هي العدالة للحقيقة، وللإنسان ذاته.