Beirut weather 22.99 ° C
تاريخ النشر January 8, 2019
A A A
قصة بعثة ناسا وأكبر مغامرة في تاريخ رحلات الفضاء!

منذ 50 عاما، عندما انطلقت بعثة أبولو 8 إلى الفضاء، كان برنامج أبولو على حافة الفشل. ولكن النجاح الذي حققته البعثة مهد الطريق للهبوط على القمر بعد بضعة أشهر من عودة بعثة أبولو 8، فضلا عن أنها ألهبت مخيلة البشر برسالة بُثت من مدار القمر عشية عيد الميلاد.
في يوم 21 كانون الأول 1968، وعقارب الساعة تشير إلى 7:50، في قاعدة كيب كانافيرال (التي يطلق عليها الآن كيب كينيدي) بولاية فلوريدا، أحكم طاقم بعثة أبولو 8، فرانك بورمان وجيم لوفيل وبيل أندرس، ربط أحزمة الأمان بمقاعدهم داخل مركبة الفضاء التي سيحملها صاروخ ساترن 5، أقوى آلة صنعها البشر على الإطلاق.
ولم يعد أمام الطاقم سوى الانتظار، فبعد لحظات قليلة سيشتعل تحتهم نحو أربعة ملايين لتر من الوقود، وبحسب معلق قناة بي بي سي الذي كان يراقبهم: “إنهم جالسون على ما يعادل قنبلة ضخمة”.
لا شك أن القلق كان يعتري الجميع، وكيف لا، وقد أجريت منذ بضعة أشهر تجربة على صاروخ ساترن 5 غير المأهول، وكانت الاهتزازات العنيفة وتأثير قوة الجاذبية بعد الانطلاق بلحظات كفيلة بإنهاء حياة أي شخص على متن الصاروخ.
وبالرغم من أن الصاروخ قد طرأت عليه تعديلات منذ هذه الحادثة، إلا أن وكالة ناسا الفضائية حذرت زوجة بورمان أكثر من مرة من أن فرص زوجها في النجاة من هذه المهمة لا تتعدى 50 في المئة.
لم يكن أداء صاروخ ساترن 5 هو الهاجس الوحيد الذي يقلق إدارة ناسا، بل إن بعثة أبولو 8، التي ستمثل قفزة نوعية في سباق الهبوط البشري على سطح القمر، كانت ستقوم بمهام لم تقم بها أي بعثة من قبل.
إذ كانت أول مركبة فضائية مأهولة تغادر المدار الأرضي، وتدور حول القمر والأولى التي تعود إلى الأرض بسرعة 40.000 كيلومتر/ ساعة. إذ كانت هذه البعثة مجازفة محسوبة للوصول إلى القمر، الجار الأقرب لكوكب الأرض، قبل الاتحاد السوفيتي.
تقول تيسل موير هارموني، أمينة جناح أبولو بمتحف الطيران والفضاء الوطني بواشنطن العاصمة: “كان قرارا جريئا لأقصى درجة. فلم يخف على أحد في وكالة ناسا آنذاك مدى خطورة إرسال هذه البعثة، ولاقت بسببها الوكالة انتقادات واسعة، كان أبرزها من رائد الفضاء البريطاني، سير بيرنارد لوفيل، الذي قال إن الولايات المتحدة تعرّض حياة بشر للخطر”.
إلا أن كل هذه التطلعات لم يكن مُخطط لها من البداية، إذ كان الهدف من بعثة أبولو 8 إجراء أول تجربة للوحدة القمرية أبولو في المدار الأرضي، ولكن إنتاج الوحدة القمرية لم يكتمل في الوقت المحدد. بالإضافة إلى أن وكالة الاستخبارات الأميركية حذرت وكالة ناسا من أن السوفييت على وشك إطلاق بعثتهم المأهولة حول القمر.

يقول بورمان: “لم ينتبه الجميع إلى أن برنامج أبولو لم يكن رحلة استكشافية ولا اكتشافا علميا، بل كان إحدى معارك الحرب الباردة، ونحن لم نكن إلا مقاتلين في إحدى ساحات معاركها”.
وبعد أربعة أشهر فقط من التدريب المكثف، يقول بورمان، الطيار الحربي السابق، إنه رغم مخاوف رؤسائه، لم يخالجه أدنى شك في أن البعثة ستنجح.
ويضيف بورمان: “اضطررنا إلى تغيير خطة البعثة لننفذ الهبوط على القمر قبل نهاية العقد، كما وعد الرئيس جون كينيدي. وفي رأيي، هذه البعثة كانت بالغة الأهمية، لا لأميركا فحسب، بل للبشر كافة الذين ينعمون بالحرية في جميع أصقاع الأرض”.
وعند تشغيل المحركات وبدء العد التنازلي، ارتفع الصاروخ ساترن 5 ببطء عن منصة الإطلاق، ثم تسارع تدريجيا لينطلق نحو سماء فلوريدا الصافية. ويقول بورمان: “شعرت أننا نتأرجح على رأس إبرة، وكان الضجيج حادا ومدويا إلى حد أننا شعرنا أننا نخضع لسيطرة قوة هائلة توجهنا في الفضاء، ولم أشعر أنني أتحكم في أي شيء”.
ويتذكر قائلا: “في هذه اللحظة تتنفس بصعوبة شديدة، ويكاد يكون من المستحيل أن تتحرك، ويزداد تسطح مقلة العين ويضيق مجال الرؤية تدريجيا حتى تنعدم الرؤية المحيطية. إنه شعور غريب”.
ولم تكد تمر ثمان دقائق حتى أصبحوا في المدار الأرضي، وبعد دورة ونصف حول الأرض شرعوا في تشغيل محرك المرحلة الثالثة من الصاروخ لينطلقوا نحو القمر، وبعد يومين، قطعا خلالهما 402.000 كيلومتر، وفي تمام الساعة 8:55 عشية عيد الميلاد، نفذ بورمان الخطوة الأهم وهي إشعال محرك وحدة خدمة أبولو لدفع المركبة الفضائية إلى مدار القمر.
ويسترجع بورمان قائلا: “استغرق تشغيل محرك وحدة الخدمة نحو أربع دقائق لإبطاء عملية الإطلاق بما يكفي للوصول إلى مدار القمر. وبعد أن قطعنا نحو ثلاثة أرباع الطريق، نظرنا إلى أسفل، فإذا القمر تحتنا”.
كان طاقم بعثة أبولو 8 أول طاقم بشري يرى هذا الجانب البعيد من القمر (أي الجانب الخفي الذي يستحيل رؤيته من الأرض) بأم أعينهم.
ويقول بورمان: “لا أظن أن جميع الكتب التي درستها في حياتي قد تؤهلني للعيش على سطح القمر بطبيعته القاسية. فإن سطح القمر وعر إلى حد يستعصي على التصديق. رأيت سطحه مليئا بالحفر وفوهات البراكين وبقايا حممها. ولكنه كان مشهدا مثيرا لعالم مختلف”.
ولم يندهش الطاقم من منظر القمر فحسب، بل بعد مرور 75 ساعة و48 دقيقة من انطلاق البعثة، لمح أندراس من القمر زرقة الأرض وهي ترتفع فوق الأفق، وفتش في كل مكان عن فيلم ملون لالتقاط المشهد الرائع.
يقول بورمان: “كان التناقض بين القمر الكئيب وكوكب الأرض الأزرق البديع آخاذا، ولاحظنا أن كوكب الأرض هو الجرم الوحيد الملون في الكون بأكمله. يمكنك أن ترى الغيوم البيضاء والقارات بلونها الوردي الضارب إلى البني. كم نحن محظوظون بالعيش على ظهر هذا الكوكب”.
وفجأة تحولت البعثة من اختبار خطير لبراعة البشر التكنولوجية وشجاعة رواد الفضاء، إلى تجربة روحانية أثارت مشاعر طاقم البعثة. وبينما لم تُنشر صورة ظهور الأرض إلا بعد عودة طاقم أبولو 8 إلى الأرض، فإن الطاقم أعد هدية أخرى لسكان كوكب الأرض احتفالا بعيد الميلاد المجيد في عام 1968.
تقول موير هارموني: “قبل انطلاق البعثة، قال مسؤول العلاقات العامة بوكالة ناسا لبورمان إنهم يتوقعون أن يتابع البث التلفزيوني من مدار القمر عشية عيد الميلاد نحو مليار شخص، ما يعادل ربع سكان العالم، وهذا يفوق عدد مستمعي أي صوت بشري آخر على مر التاريخ. وأخبره أن يعدّ كلمة مناسبة لإلقائها أمام جمهور المتابعين.”
ويقول بورمان: “هذه لحظة من اللحظات الفارقة في تاريخ أي بلد ينعم بالديمقراطية. تخيل لو كان السوفييت مكاننا لكنا تحدثنا عن فضل لينين وستالين، ولكن في المقابل قيل لنا أن نختار كلمة مناسبة وحسب”.
إلا أن إعداد هذه “الكلمة المناسبة” لم يكن بالأمر الهين. ويقول بورمان: “حاول ثلاثتنا بمساعدة زوجاتنا التفكير في أي شيء مناسب لنلقيه على مسامع المتابعين، ولم نتوصل لشيء”.
ولجأ بورمان إلى أحد أصدقائه، الذي استعان بدوره بمراسل حربي متقاعد يُدعى جو لايتون، ويقول بورمان: “على حد علمي، سهر لايتون الليل بأكمله وهو يكتب كلمات على الورق ثم لا يلبث أن يجعّدها ويلقيها على الأرض، وعندما رأته زوجته، التي شاركت سابقا في صفوف المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، اقترحت عليه أن يبدأ من البداية”.
وعند بدء التصوير، أخذت المركبة الفضائية تقترب من شروق الشمس على القمر عشية عيد الميلاد (بتوقيت الولايات المتحدة الأمريكية)، وشرع طاقم البعثة في قراءة سفر التكوين بالتناوب، واستهل أندرز بقراءة: “في البدء…”، واختتم بورمان قائلا: “نتمنى لكم ليلة سعيدة وحظا سعيدا وعيدا سعيدا، وبارككم الله جميعا، جميع البشر على كوكب الأرض الرائع”.
ويقول بورمان: “كنا على قناعة حينها أن هذه الكلمة هي الأنسب لهذا المناسبة للتعبير عن الرهبة التي تملكتني، وحدي على الأقل، من مدى ضآلة حجمنا جميعا بالنسبة إلى الكون. فمن المستحيل أن يكون هذا الكون بضخامته ودقة تنظيمة قد خُلق من تلقاء نفسه من دون تدخل إلهي”.
غير أن البعثة لم تنته بعد. ففي يوم عيد الميلاد شغّل بورمان المحرك مرة أخرى ليغادر مدار القمر. ويقول: “نفذنا عملية إشعال المحرك لدفع المركبة إلى المدار الأرضي عندما كنا على الجانب البعيد من القمر، فلو أخفقت عملية الإطلاق، لكنا الآن لا نزال ندور حول القمر”.
ولم يفت مركز المراقبة والتحكم الأرضي في البعثة أن يرسل هدايا عيد الميلاد للطاقم على متن المركبة، والتي كانت عبارة عن وجبة من الديك الرومي المغطى بالصلصة البنية الكثيفة، وملفوفة في ورق هدايا لامع غير قابل للاشتعال.
ويقول بورمان: “وضع دِك سلايتون (رئيس الطاقم)، خلسة وسط أمتعته ثلاث جرعات صغيرة قوية المفعول من مشروب البراندي ولكننا لم نشربها، فقد خشيت أن أتحمل تبعات أي خطأ يقع دون أن ندري”.
وفي يوم 27 كانون الأول، عاد الطاقم إلى الأرض، إذ هبطت المركبة بالقرب من الهدف في المحيط الهادئ. وقد كانت نهاية مثالية لبعثة ناجحة، أثبتت أن الرحلات الفضائية إلى القمر ستؤتي ثمارها.
وتقول موير هارموني: “لم تحقق بعثة أبولو 8 إنجازا علميا وهندسيا تاريخيا فحسب، إنما أسهمت أيضا في توسيع آفاق التجارب البشرية، وأثّرت على نظرتنا للأرض ومكان البشر في الكون”.
أما الكولونيل بورمان، الذي لا يزال يحتفظ بروح المقاتل في الحرب الباردة رغم بلوغه 90 عاما، فيرى أن الإنجاز الحقيقي لآخر البعثات التي شارك فيها هو تقدُم أميركا على غريمها الاتحاد السوفيتي في السباق نحو القمر.
ويقول بورمان: “لا أخفيك سرا أنني لم أكترث لإرث بعثة أبولو 8. فبعد أن نجحت بعثة أبولو 11 (في تنفيذ أول هبوط بشري على سطح القمر)، لم أعد أهتم ببرنامج أبولو، إذ شاركت من البداية في البرنامج لأقاتل في إحدى معارك الحرب الباردة، وقد انتصرنا”.