Beirut weather 16.41 ° C
تاريخ النشر November 14, 2017
A A A
هذا ما قاله الرئيس فرنجيه في الامم المتحدة عن القضية الفلسطينية
الكاتب: أرشيف أنطوان المقسيسة - زغرتا - لبنان

حضرة الرئيس ,
أشكر لكم ما أحطتموني به من كريم الحفاوة . وأغتنمها مناسبة أكرّر فيها التهاني بإنتخابكم رئيساً للجمعية العامّة , متمنّياً لكم مخلصاً تمام التوفيق . إنّ الإجماع الذي تحقّق حول شخصكم , إنّما هو تقدير للمزايا العالية التي بها تتحلّون وتكريم لأصالة البلد الشقيق الذي بكلّ جدارة تمثّلون .
ويطيبُ لي ايضاً , أن اتوجّه إلى حضرة الأمين العام الدكتور كورت فالدهايم بعبارات التقدير , لما يبذله من جهود لا تعرف الكلل , في سبيل تحقيق اهداف الشرعة , وخدمة مُثُل السلام والتعاون بين الأمم .

حضرة الرئيس , حضرات السادة المندوبين
أودّ , وانا أتوجّه إليكم بإسم لبنان , وبإسم تسع عشرة دولة عربيّة أعضاء في منظمّة الأمم المتّحدة , شرّفني رؤساؤها بأن طلبوا إليّ تمثيلهم هنا , أودّ أوّلاً أن أُوضِح مدى المهمّة الموكولة إليّ .
فإذا ما ذكّرنا بحقوق الشعب الفلسطيني ودافعنا عنها , إنّما بمبادئ الأمم المتّحدة وشرعتها نذكّر وعنها ندافع . وما قضيّة فلسطين والعرب , بصراحتها , إلاّ قضيّة العدالة بالذات, والعدالة لا تتجزّأ . إن هي إلاّ قضيّة السلام في آن , والعدالة والسلم لا ينفصلان . ذلك هو شعوري . ومن هنا اليقين بأنّ السعي في هذا السبيل يحمل في ذاته ذلك التعاون المخلص , المثمر , الثابت , الذي يجب أن يقوم بين العالم العربي والعالم أجمع .
وبذلك أجدني , في الوقت نفسه , متجاوباً ورسالة لبنان في اعلى مراتب اصالتها واثبت معانيها :

التسامح والإنصهار الإنساني , في جوّ من التآخي والسلام .
هكذا كان لبنان , بجهود أبنائه , ترعاهم عناية الله .
أوليسَ ذلك صورة لما يمكن أن يكونه عالمٌ تخلّص من سُلطان العنف ومن كابوس التمييز العنصري والديني ؟

فعندما وقف لبنان إلى جانب الشعب الفلسطيني المشرّد من أرضه وموطنه , كانت تحدوه اسمى دوافع العقل والقلب , دوافع الأخوة العربية والتضامن الإنساني , إلى جانب العوامل الجغرافية وقواعد التاريخ . فنحن على تخوم فلسطين . ولقد كان لزاماً علينا ان نستقبل مئات آلافٍ من إخواننا الفلسطينيين شرّدتهم أساليب العنف الإسرائيلية الجائرة , وما زالت تطاردهم غير مبالية بما يصدر عن الأندية الدولية من إدانات . وها هي الآن تُمعن في نفث الأحقاد ضدّ اللبنانيين , فتُغِير في كلّ يوم , وحتّى في الأيّام الأخيرة الماضية , ومساء البارحة بالذات , على جنوب لبنان , تضربنا في جسومنا , تجرحنا في مشاعرنا , وتهدّد امننا.

وثمّة إعتبارات أسمى تحوّل لبنان مخاطبة الأمم المتحدة في هذا اليوم . فلبنان , الضيّق برقعته , الفسيح بنشاطه وإنتشاره في أرجاء الدنيا , قد ربط مصيره بمصير الحقّ .

ووجوده هو بحدّ ذاته إعلاءً لقيّم العدالة والحريّة والإخاء . وإذا كان الإيمان والمحبّة والتسامح أوجها من وجوه الفضيلة في كلّ مكان , فهي من قواعد الدولة في لبنان .
فعندما يحمل لبنان رسالة السلام مبنيّاً على العدل, إنّما يقوم بدور طبيعي . وعندما يدافع عن شعب فلسطين , فإنّه يضيف إلى بلاغة الكلام , من طريقة عيشه وتصرّفه , ما هو أبلغ من الكلام .
وكما أنّ للحقّ والعدالة منطقاً , فللحكمة منطقها أيضاً .

فلنستمع إليها تؤكّد أنّ العنف قصير الأجل , عاجز عن تأمين سلمٍ صحيح دائم , عقيم إذا ما تصدّى لحقوق الشعوب الأساسية , كما هي الحال بالنسبة إلى شعب فلسطين , أضعف من أن ينال من عزم الفلسطينيين على المقاومة داخل الأراضي المحتلّة أو من تصميم على مواصلة الضغط من الخارج من أجل التحرّر . تلك هي سنّة التاريخ في حركات المقاومة والتحرير .
إنّ نظرة إلى الطريق الذي قطعه أخواننا الفلسطينيون في قرابة نصف قرن , سعياً للحفاظ على شخصيّتهم وحقوقهم الوطنيّة , إنّ نظرة كهذه لا تترك مجالاً للشكّ بانّ الكلمة الأخيرة ستكون كلمتهم . إنّ في إنصافهم إستباقاً لأحكام التاريخ , وتجنيباً لخضّات جديدة متزايدة الخطورة قد تصيب منطقتنا وربّما العالم بأسره .

حقائق بديهيّة تتجلّى كلّ يوم . ولا بدّ , مهما تعامى العناد , من التسليم بها آخر الأمر .
وهكذا , فإنّ كلّ فصل من فصول المأساة التي نعاني يؤكّد حقيقة أرادوا تجاهلها زمناً طويلاً , تقول بأنّ العالم العربي , وهو أرض وحيٍ ومفترق قارّاتٍ ثلاث , يحتلّ موقعاً إستراتيجيّاً فريداً , ويملك ثروة روحيّة وماديّة لا تنضب , وهو مؤهّل لأن يُسهم إسهاماً كبيراً في التطوّر الإنساني , في مختلف وجوهه , إذا ما توفّرت له أسباب التعاون المخلص الآمن في جوّ من السلام .

السلام ! أيّ سلام ؟
فلنُصغِ إلى قداسة البابا بولس السادس يتحدّث بكلمات رائعة فريدة بآنيّتها .

( الكلام للبابا )
” السلام ليس فخّاً . وما أبعده عن قساوة الطغيان المستبدّ وأنّه لأبعد ايضاً عن العنف. وإذا تحرّينا حقيقة مصادره وجدنا أصولها في أعماق الإنسان . وهذه الإستقامة هي العدالة . .. وإذا كانت تلك حقيقة لا مفرّ منها , فلماذا نضيّع الوقت في إرساء السلام على غير أسس العدل ” ؟.
( إنتهى كلام البابا ) .

حضرة الرئيس , حضرات السادة المندوبين
منذ أكثر من خمسٍ وعشرين سنة , منذ أن إجتاح الأرض المقدّسة الغضب والدمار , والوقت يهدر بإنتظار ان تمضي الأمم في السبل المؤدّية إلى حلٍّ سلميّ للمسالة المأساة في فلسطين .
لن أعدّد هنا ما إرتكب من أخطاء , وإهمال , وتوانٍ , كان من نتيجته أن لازمت أساليب العنف هذه المسالة , منذ صدور أوّل قرار لهيئة الأمم المتّحدة عام 1947 ودفعت بها في سبل لا تؤدّي إلى غير العنف . وحسبي التذكير بما تعرّضت له جميع المقرّرات التي صدرت عن الجمعية العامة وجميع قرارات مجلس الأمن , منذ ذلك التاريخ وحتّى اليوم من إنتهاك إسرائيل لها وإزدرائها إيّاها وأخصّ بالذكر منها ما صدر منذ عام 1969 وقد جاء , على حدّ تعبير تلك النصوص , ” يؤكّد على ديمومة حقوق الشعب الفلسطيني , ويعلن أنّ إحترام هذه الحقوق إحتراماً كليّاً يشكّل عنصراً أساسيّاً لإقامة سلام عادل ومستقرّ , ويدين الحكومات التي تتنكّر لحقوق هذا الشعب الوطنيّة , ويقول بشرعية نضالها لإستعادة حقّها بكلّ ما يمكن من وسائل , ويعتبر أن تملّك الأرض خلافاً لحقّ تقرير المصير , أمر مردود ومناقض بشكلٍ فاضح لشرعة الأمم ” .
هذا بالحرف ما قالته هيئة الأمم .

ولا بدّ من التذكير أيضاً بالمرّات العديدة , منذ عام 1971 , التي عادت فيها الجمعيّة العامة إلى التأكيد علانية على تلك المبادئ , مطالبة مجلس الأمن والدول الأعضاء بإتّخاذ التدابير الكفيلة بتنفيذها , مناشدة الدول المتمسّكة بمُثُل الحريّة والسلام أن تمدّ سياسيّاً ومعنويّاً وماديّاً كلّ شعبٍ يناضل , كالشعب الفلسطيني , من أجل إستقلاله وحقّه في تقرير المصير .

لقد طالما ظلّت قضيّة فلسطين لأسباب وذرائع شتّى , غارقة في إطار سياسة دوليّة , متداخلة , على تشابك وغموض , مع مختلف القضايا المطروحة على بساط الشرق الأوسط , كمثل شجرة ضاعت في غابة .

لكن كان لا بدّ لتلك القضيّة من أن تبرز وتفرض نفسها , وتظهر للعيان في رواية أكثر وضوحاً وواقعية . وها هي جمعيّتكم العامة تقول بواقع , كان وما زال بديهيّاً في نظرنا , فتعترف بأنّ للشعب الفلسطيني هويّة مميزّة , وبأنّ منظّمة التحرير الفلسطينية هي الممثّل الشرعي لهذا الشعب , فتدعوها إلى الإشتراك بمناقشاتها .

ولقد سمعتم أمس ايّها السادة , الحقيقة من فم اشخاص يعرفون عنها أكثر من غيرهم , لأنّهم قاسوا في سبيلها أكثر من سواهم . إنّهم المحاور الطبيعي والشرعي .

إنّ في وجود فلسطين بيننا هنا , وإن كانت لا تزال تعاني الآلام , وتفتقر إلى إستكمال حقوقها , إنّ في ذلك لمرحلة في إنجاح قضيّة عادلة وإبلاغ كفاح عادل غايته . وإسمحوا لي ان أضيف أنّ في ذلك أيضاً بادرة مشجّعة تبشّر بوعي الأمم المتّحدة وعياً نأمل ان يكون فعليّاً وفاعلاً .

أيّها السادة

إنّما المسالة مصير , فيها سعادة ملايين من البشر أو شقاؤهم , حياتهم أو موتهم . وإذا ما عاد هذا الصراع التاريخي إلى الإنفجار فلن تُحصَر أبعاده . إنّ حرباً إقليميّة جديدة لتهدّد السلام في العالم اجمع .
لقد حان لنا جميعاً , وفي هدوء هذا الجوّ , جوّ جمعيّتكم , أن نفرض سلطان القانون وأن ننصر الحقّ . لم يعد ممكناً ان تقف الأسرة الدوليّة موقف اللامبالاة والشعب الفلسطيني يتألّم ويفقد , عن حقّ , صبره . لم يعد ممكناً أن نتجاهل ضرورة أعادة جميع الأراضي التي إغتصبت بالقوّة . إنّنا مدعوون إلى المزيد من الجرأة والحكمة حتّى نجد الحلول العادلة لهذا النزاع الكبير .
وإذا ما إكتفينا بالإعتراف بشعب فلسطين وممثّليه , فذلك يعني إكتفاءً بحقيقة مجتزأة . فإذا أردناها كاملة , توجّب علينا أن نساعد هذا الشعب على إستعادة حقوقه بكاملها . ذلك شرط لمعالجة القضيّة بمعطيات الواقع وعن كثب . إنّه المفتاح لكلّ حلّ مشرّف مفيد , والباعث لكلّ أمل .

حضرة الرئيس , حضرة السادة المندوبين ,
إنّ ما أصاب القدس لكافٍ بحدّ ذاته لتحريك الضمائر . فالقدس ليست مجرّد قطعة من أرض . إنّها المكان الأسمى حيث أجيال من البشر تمدّ اصولها وتنهل الإيمان . فكيف الحديث عن السلام , عندما نجد المكان الوحيد الذي يتلاقى فيه المسلمون والمسيحيون واليهود , في عبادة الله الأحد , قد اصبح مكاناً للتفرقة ومدعاةً للبغضاء . إنّ في المدينة المقدّسة أوضح صورة لرفض إسرائيل أن تذعن إلى مقرّرات الأمم المتّحدة المتكرّرة سواء ما صدر منها عن هيئة الأمم هنا , أم عن منظّمة الأونيسكو وهي تقضي بإدانة تعنّت إسرائيل وإمعانها في تشويه الأماكن المقدّسة , ولا سيّما محاولتها تقويض المسجد الأقصى الكريم وكل المعالم المقدّسة .

أيّها السادة ,
علّنا إبتدأنا اليوم مسيرة تدفع بنا إلى سلامٍ حقيقي . إنّني أناشد جمعيّتكم الموقّرة ألاّ تدع هذه السانحة تفوتنا.

الخميس في 14 تشرين الثاني 1974