Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر June 2, 2023
A A A
التطبيع مع الواقع الاقتصادي الصعب ليس طريقاً للتعافي والازدهار
الكاتب: سعادة الشامي - النهار

 

إنها أزمة متعددة الأبعاد والأوجه. إنها أزمة اقتصادية، مالية، نقدية، مصرفية، سعر صرف وميزان مدفوعات، كما هي أزمة اجتماعية، تربية وصحية. إنها أزمة فريدة من نوعها. ومع ذلك فإن الطبقة السياسية التقليدية تتصرف وكأنها تعيش على كوكب آخر.

أعدت الحكومة برنامج إصلاح اقتصادي شامل على أساسه توصّلنا الى اتفاق على صعيد الموظفين مع صندوق النقد الدولي في نيسان 2022. نعم، يوجد برنامج وخطة للحكومة. نعم يوجد برنامج كهذا نُشر على الموقع الإلكتروني لرئاسة مجلس الوزراء ووُزّع على جميع أعضاء مجلس النواب وعلى الكثير من المعنيين بالشأن الاقتصادي والمالي. ومع ذلك، فإن تصريحات لسياسيين واقتصاديين (جدد وقدامى) تدعي أنه لا يوجد برنامج اقتصادي أو رؤية اقتصادية للحكومة هي مجرد افتراءات (حتى لا أقول أكاذيب). أتفهم جيداً أنه إن كان عند البعض ملاحظات على بعض عناصر البرنامج وهذا مشروع ومتوقع، ولكن القول بأن البرنامج غير موجود هو نوع من الخداع.

ما يتفوه به العديد من السياسيين وصانعي القرار يدل على أنهم لا يريدون مواجهة الناس وناخبيهم بالحقيقة والواقع الصعب على الأرض، كما أن المجموعات المختلفة التي تعترض على برنامج الإصلاح ناتجة بمعظمها عن مصالح ذاتية، وكلاهما قد يخدم مراكز نفوذ محددة. العلاقة بين السياسيين ومراكز نفوذ قوية ومسيطرة، ولسوء الحظ بمساعدة بعض وسائل الإعلام، تعوق عملية الإصلاح. حاولت في البدء تفهّم كل الاتهامات من مصادر مختلفة ومطلقيها. لكني توصلت إلى استنتاج مفاده أنه مهما حاول المرء أن يتحاور بعقلانية ومنطق مع أناس أعمت بصيرتهم المصالح الشخصية والآنية فإنه عبثاً يحاول. في هذه الحالة ما على المسؤول إلا أن يتخذ قراره ويمشي غير عابئ باعتراض من هنا وتهجم من هناك إن كان مقتنعاً بصواب قرارته. وهذا ما يتطلب رجال دولة من المستوى المطلوب في هذا المنعطف الاقتصادي الصعب والخطير والذي يهدد مستقبل البلد. إن عدم الشعور بخطورة الوضع أمر مذهل ويصعب فهمه.

إن عنوان تقرير البنك الدولي حول الوضع الاقتصادي في لبنان معبّر للغاية: “إن تطبيع الأزمة ليس طريقاً لتحقيق الاستقرار”. هناك ادعاءات مفادها أن الاقتصاد آخذ في التكيّف وأن القطاع الخاص بدأ يتأقلم مع الوضع الذي وصلنا إليه وأن الأمور بدأت تعود إلى طبيعتها. إن التكيّف مع أي وضع أو ما يوصف في كثير من الأحيان بقدرة اللبنانيين ومرونتهم على التكيّف مع كل وضع مستجد (resiliency)، ليس مدعاة للفخر والمباهاة في السياق الحالي. بل على العكس من ذلك، فإن التكيف مع وضع بهذه الخطورة وقبوله كما هو لن يخلق نوعاً من الحوافز أو الدوافع لتغييره، وربما يراهن السياسيون على ذلك. كلا، قبول الوضع الحالي على علاته وتقطيع الوقت دون إيجاد حلول جذرية ليس حلاً. التطبيع ليس طريقاً لتحقيق الاستقرار، فضلاً عن التعافي والازدهار، بل على العكس هذا سيؤخر عملية الإصلاح ويدخل البلد في نفق طويل دون إمكانية الخروج منه في الأمد المنظور.

إن تحقيق الاستقرار الماكرو اقتصادي هو شرط ضروري ومسبق لتحقيق التعافي والانتعاش الاقتصادي. لا يمكن تحقيق النمو وخلق فرص عمل إذا كان النظام المصرفي غير فاعل والاقتصاد النقدي متفشياً (وأنا أحيّي المحاولة الواردة في التقرير لتقدير حجم الاقتصاد النقدي)، أو بوجود أسعار صرف متعددة ونسب تضخم مرتفعة، وإذا لم تُفعّل الخدمات العامة ويتم إصلاح البنية التحتية المتهالكة. هذه كلها تتطلب نوعاً من الإصلاحات التي هي في صلب برنامج الحكومة الاقتصادي. قد تكون بعض الإجراءات مؤلمة، لكن صدقوني، إنها ليست أكثر إيلاماً مما نشهده اليوم.

هناك بعض مشاريع القوانين المطلوبة، كقانون الكابيتال كونترول على سبيل المثال، ما زالت قيد المناقشة منذ أكثر من ثلاث سنوات وحتى الآن لم يقرّه البرلمان. إن وجود أسعار صرف متعددة مضرّ للغاية نظراً للتشوّهات التي يخلقها حيث تستفيد بعض المجموعات على حساب الآخرين وعلى حساب المودعين بشكل أساسي، ومع ذلك فإن الدعوة إلى توحيد سعر الصرف لا تزال تراوح مكانها. أما التدقيق في الأصول الأجنبية لمصرف لبنان فقد انتهى ولكن لأسباب غامضة لم يُنشر بعد، كما أن تعديل قانون السرية المصرفية، وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح، أتى ناقصاً بالرغم من التنبه الى هذا الامر في مجلس النواب لأنه لا يساعد في إعادة هيكلة البنوك والتعامل مع الفجوة المالية في القطاع المصرفي.

هذه القوانين وتدابير الإصلاح مطلوبة للتوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي. هناك حاجة ماسة لمثل هذا الاتفاق لأنه يفتح الباب أمام المجتمع الدولي لمساعدة لبنان مالياً، وهي مساعدة نحن بأشد الحاجة إليها. كما أنه سيساعدنا في التفاوض مع حاملي سندات اليوروبوند التي تخلفنا عن سدادها وكذلك العودة إلى الأسواق المالية الدولية. بالإضافة الى كل ذلك، اتفاق كهذا يساعدنا في تمويل العجز في الموازنة بدلاً من اللجوء إلى طباعة النقود التي من شأنها أن تؤدي إلى مزيد من الضغط على سعر الصرف ومزيد من تضخم الأسعار.

على الرغم من الوضع الصعب للغاية، فإن لبنان بلد صغير يمكنه الخروج من هذه الأزمة بسرعة إذا تبنى صنّاع القرار الإصلاحات المطلوبة. هناك العديد من النقاط المضيئة في لبنان. على الرغم من هجرة الأشخاص ذوي الكفاءة، لا يزال لبنان يتمتع بمجموعة جيدة من المواهب مع العديد من الشباب الذين يعملون من لبنان الى بلدان أخرى في مجال تكنولوجيا المعلومات والمجالات الأخرى، ويبقى اللبنانيون رواد أعمال ومبدعين بالإضافة إلى رغبتهم في النجاح و التألق. يمكن أن تساعد هذه السمات في إخراج البلاد من القعر الذي نحن فيه اليوم.

يمكننا وضع البلد على المسار الصحيح بسرعة إذا اتخذنا الإجراءات المطلوبة بمساعدة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمجتمع الدولي. الخيار لنا. إذا قررنا عدم السير في طريق صندوق النقد الدولي، فإن الإصلاح سيكون أشد إيلاماً. إلى جانب ذلك، لا يطلب منا صندوق النقد الدولي ما لا نطلبه نحن من أنفسنا. نعم، الخيار لنا ولكن يجب أن نتخذ قرارات مستنيرة من أجل إخراج لبنان من هذه الحفرة. قد يؤدي عدم القيام بذلك إلى جعل الحفرة أعمق وقد نبقى هناك لفترة طويلة وندخل في أزمة لا أفق لها. آمل أن يعي كل المعنيين، سواء في البرلمان أو في البنك المركزي أو في الحكومة أو في القطاع الخاص، خطورة هذه المرحلة ويفعلوا ما يلزم لإنقاذ البلاد.

*نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال