Beirut weather 29.65 ° C
تاريخ النشر February 10, 2025
A A A
وصاية بلا قفازات
الكاتب: المحامي زياد رامز الخازن

 

كتب المحامي زياد رامز الخازن

السياسة, في جوهرها, هي فنّ إدارة المصالح وحماية الكرامة. والدبلوماسية, في أرقى معانيها, هي التوازن بين القوة والاحترام. لكن عندما تزول الأقنعة, ويُستبدل الحوار بالإملاء, والاحترام بالوصاية, يتحوّل المشهد إلى مسرحية هزيلة, لا تمتّ إلى سيادة الدول بصلة, بل تعكس معادلة السيد والتابع.

قبل أيام, شهدنا مشهداً غير مألوف حتى في أدبيات الهيمنة السياسية. مبعوثة دولة كبرى, تقف في قلب القصر الجمهوري, لتحدّد, دون تردد أو مواربة, من يحق له المشاركة في الحكومة, ومن يجب إستبعاده. ومن هناك أيضاً, من أعلى منصّة رسمية يفترض أنها رمز الدولة والشرعية, وجّهت شكراً علنياً للعدو الإسرائيلي, ليس فقط كتصرف سياسي, بل كنوع من الإحتفاء الموثّق بمآسي اللبنانيين. بدا الأمر وكأن الدبلوماسية التقليدية قد إستقالت, وحلّت محلّها لغة الأوامر الجازمة, في مشهد لم يكن ممكناً تصوّره قبل عقود.

لبنان, على صغره, لم يكن يوماً ساحة مستباحة إلى هذا الحدّ. صحيح أن التدخلات الخارجية ليست جديدة, لكنها لطالما كانت تُمارس بحذر, وكانت تجد أمامها رجال دولة يعرفون كيف يصونون الكرامة الوطنية, أو على الأقل, يفرضون إحترام الأعراف الدولية.

نتذكّر هنا مشهداً مختلفاً, يوم قرر الرئيس سليمان فرنجيه أن السيادة ليست مجرد عبارة تُكتب في مقدمة الدستور, بل هي فعل يمارس في اللحظة التي يُختبر فيها الموقف. يومها, إستدعى سفير أعظم دولة في العالم, وأبلغه أن بلاده قد تجاوزت حدودها, ثم منحه “إجازة قسرية” خارج لبنان, في خطوة لم تكن تهدف إلى الإستعراض, بل إلى تأكيد حقيقة واحدة: لا قرارات تملى على دولة ذات سيادة.

كان ذلك زمناً مختلفاً, لا لأن التدخلات كانت أقل, بل لأن الإرادات كانت أشدّ صلابة. كان رؤساء الجمهورية يعتبرون القصر الجمهوري حصناً للقرار الوطني, لا منصّة لإعلان الرضوخ. وكان السفراء يعرفون أن دورهم هو التفاوض لا الإملاء, والتشاور لا إصدار التعليمات.

لكن اليوم, تغيّرت المعادلة. لم تعد الضغوط تُمارس من خلف الأبواب المغلقة, ولم تعد لغة المجاملات هي السائدة. أصبحت الأوامر تُلقى من أعلى المنابر, والتدخّل يتمّ بمزيج من الفوقية والإحتقار, وكأن لبنان لم يعد دولة مستقلة, بل ساحة مفتوحة لمن يملك النفوذ الأقوى.

الأمر لا يتعلق بموقف سياسي أو بخلاف دبلوماسي, بل بمنطق جديد يحاول أن يفرض نفسه: أن يُصبح القبول بالإملاءات الخارجية أمراً طبيعياً, وأن يُنظر إلى السيادة كمجرّد فكرة قديمة لا تصلح لعالم اليوم. هناك من يبرّر هذا الواقع بحجج الواقعية السياسية, وهناك من يعتبره “ضرورة” لتسيير الأمور, لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها هي أن أي دولة تقبل بتجريد نفسها من قرارها, تصبح شيئاً فشيئاً بلا وزن, وبلا دور, وبلا إحترام.

لا كرامة لوطن تُرسم قراراته خارج حدوده, ولا سيادة لدولة ترهن مصيرها لإملاءات القوى الكبرى, أكانت أميركية أم سورية أم إيرانية. الوصاية, مهما اختلفت راياتها, تبقى نقيض الإستقلال, ولا يمكن لشعب أن يصنع مستقبله وهو أسير حسابات الآخرين. فإما أن تبقى السيادة مبدأ غير قابل للمساومة, وإما أن تصبح الدولة مجرد نقطة على خارطة المصالح الكبرى, تُمحى حين تقرر القوى العظمى أن الوقت قد حان.